أحدث الأخبار
فراعنة الأسرة الرابعة في مصر القديمة كانوا يعرفون ما يفعلونه.. فبمجرد أن اعتلوا العرش بدأوا في بناء هرم يخلد ذكراهم بعد مماتهم ويجمع أبناء أمة غير مستقرة على مشروع وهدف واحد.
وبعد 4500 سنة لا تزال أهرام الأسرة الرابعة علامة بارزة في مصر الحديثة إذ تجتذب السياح الذين يدرون على الاقتصاد المحلي دخلا يمثل عشرة في المئة من الدخل القومي في قطاع يوفر فرصة عمل من بين كل ثماني فرص. وعلى النقيض.. لكن حكام مصر في السنتين ونصف السنة الماضية أخفقوا في جمع شتات أمة تعاني القلاقل مجددا.
قبل عام 2011 كانت أهرام الجيزة التي تبرز في منطقة صحراوية تطل على القاهرة وكان تمثال أبو الهول الذي بني ليحرسها آثارا تجذب آلاف الزائرين يوميا مما يدر دخلا بالعملة الصعبة.. لكن في أحد أيام الأسبوع الماضي خلا المكان إلا من مدرعتين عند بوابة المكان ولم تكن هناك أي سيارة في مرآب يتسع لمئة حافلة سياحية. وداخل غرفة الدفن في عمق هرم خفرع الذي يبلغ ارتفاعه 136 مترا لم يكن بصحبة مراسل رويترز سوى تابوت الفرعون المصنوع من الجرانيت.
وعندما أقدم الجيش قبل شهرين على عزل محمد مرسي أول رئيس منتخب في انتخابات حرة بمصر شهدت البلاد حلقة جديدة من القلاقل التي تعصف بها منذ الإطاحة بحسني مبارك في انتفاضة شعبية اندلعت في يناير كانون الثاني 2011.
ابتعد السائحون عن مصر من حينها مع نزول مئات الآلاف وأحيانا الملايين إلى الشوارع كل بضعة أشهر ناهيك عن مقتل المئات منذ اغسطس آب حين فضت قوات الأمن اعتصامين مؤيدين لمرسي.
وفي القاهرة لم يشغل الزائرون سوى 17 في المئة فقط من الأسرة الفندقية في يوليو تموز حسب بيانات شركة إس.تي.آر جلوبال لأبحاث الفنادق.. وذلك بالمقارنة مع 53 في المئة قبل عام و70 في المئة قبل عامين.
وحتى في شرم الشيخ المطلة على البحر الأحمر والتي كانت إلى حد كبير بمعزل عن القلاقل السياسية في القاهرة والمدن الكبرى الأخرى تراجعت نسبة الإشغال إلى 49 في المئة من 79 في المئة قبل عامين.
وفي الجيزة لم يعد هناك إلا النذر اليسير من الباعة الجائلين والمرشدين غير المحترفين الذين كانوا يملأون المكان يوما ويلحون على السائحين -وأحيانا بشكل فج- لإقناعهم بالشراء منهم أو الاستعانة بهم.
قال عبد الرحمن آدم (61 عاما) عارضا تمثالا من الجبس لأبي الهول في كل يد من يديه إن مكسبه الآن بين 1.5 دولار ودولارين يوميا بعد أن كان دخله يزيد عن ضعف ذلك قبل 2011.
- المصلحة أبدى من الأمن
يقول المرشد السياحي جوزيف سليم "هذا أسوأ موسم على الإطلاق." يوما كان الحجز لديه لخمسة وعشرين يوما في الشهر وكان يكتمل لعام مقدما عادة. وقبل أحداث العنف في يوليو تموز كان الحجز يغطي ما بين 15 و20 يوما في الشهر. أما الآن فلا يتخطى خمسة أو ستة أيام.
ويرى كثير من العاملين بالقطاع السياحي أنه رغم أن الجيش أدار شؤون البلاد لمدة 17 شهرا بعد سقوط مبارك فإن الأزمة التي يمرون بها حاليا ما هي إلا نتيجة أخطاء مرسي وجماعته الإخوان المسلمين.
ويرون أن الحملة التي شنها الجيش على الإخوان -الذين عانوا اضطهادا في العقود الماضية ثم فازوا بسلسلة الانتخابات التي جرت بعد سقوط مبارك- كانت شرا لابد منه للتخلص من جماعة باتت تمثل خطرا. ويقولون إن وسائل الإعلام الأجنبية بالغت في تصوير مقتل مؤيدي مرسي.
وقال سليم "في البداية قلت لنفسي: إنهم أناس ذاقوا العناء. ربما يجتهدون حقا ويتحسن الاقتصاد على أيديهم.
"لكنهم لم يهتموا بشيء سوى الاستئثار بالسلطة."
وتقول الجماعة إن الجيش أعد العدة لإفشالها وإن ما ينسب إليها من التحريض على العنف ما هو إلا ذريعة لتنفيذ حملة للقضاء عليها. أما منتقدوها فيقولون إن مرسي فضل المواجهة والاضطراب على الأمن والاستقرار.
الفراعنة أيضا أدركوا أهمية الأمن والأمان فأقاموا مقابرهم على أراض عالية تقيها على مر السنين من فيضان نهر النيل كما وضعوا في حسبانهم طمع الطامعين في النفائس التي كانوا يضعونها فيها استعدادا لحياة ما بعد الموت.
واليوم.. لا يفهم كثيرون سبب اختيار مرسي لعضو في الجماعة الإسلامية التي سبق وأن رفعت السلاح محافظا للأقصر التي تضم الكثير من أجمل الآثار الفرعونية والتي تقع على بعد حوالي 500 كيلومتر إلى الجنوب من القاهرة. وألقيت المسؤولية على الجماعة الإسلامية في مقتل 58 سائحا في معبد حتشبسوت بالأقصر عام 1997 لكنها الآن نبذت العنف الذي لجأت إليه يوما سعيا لقيام دولة إسلامية.
وأغلقت منطقة الأهرام تماما يوم الجمعة الماضي حين قام مؤيدو الإخوان باحتجاجات في أنحاء مصر.
- الرئيس الفرعون
يقول الباعة في المتاجر والباعة الجائلون إنهم كانوا جميعا يساندون مرسي ويحترمونه لأن كما يقول سليم "رئيس مصر مازال أشبه بالفرعون.. لا يمكنك أن تقول عنه ما لا ينبغي قوله."
لكن سرعان ما أثار مرسي قلق الكثيرين في أنحاء بلد يضم طوائف مختلفة وبه درجات متباينة من الالتزام الديني. قال سليم إن مرسي "تحدث بأسلوب مختلف تماما. قال (سأضحي بحياتي من أجل مصر). تحدث كثيرا عن الدم. وهذا أثار قلقنا."
وسليم من أقباط مصر.. لكن زملاءه من المسلمين صدقوا على كلامه.
وإذا لم يكن مرسي هو الزعيم الذي تاق إليه المصريون.. فمن عساه يكون ذاك الزعيم؟ ربما كان نسخة معاصرة من الملك القائد رمسيس الثاني الذي أمسك بزمام الحكم بيد من حديد.
يرى كثير من المصريين أن الجيش هو المؤسسة الوحيدة القادرة على تسيير الأمور. كان الجيش هو منبت حكام مصر منذ عام 1952 وهو أقرب ما يكون في مصر الحديثة من الأسر الفرعونية. وهو يسيطر على امبراطورية أعمال يشتغل بها عدد كبير من المتعاقدين المدنيين.
- "السيسي منقذنا"
من يرون أن الأمن هو مفتاح الفرج بالنسبة للسياحة يكنون قدرا كبيرا من الإعجاب بالقائد العام للقوات المسلحة الفريق أول عبد الفتاح السيسي الذي عزل مرسي ويبدو الآن أنه يسعى لسحق الإخوان المسلمين.
يقول إبراهيم علي (35 عاما) في متجر يعرض منتجات من أوراق البردي على السائحين في الجيزة "الناس يحبونه لأنه المنقذ."
ويمضي قائلا "إنه رجل رائع. يتحدث إلينا كمصري... نثق بالجيش. العلاقة بين الجيش والشعب شبه مقدسة."
وفي متجر قرب الأهرام يبيع المنتجات المصرية القطنية قال اثنان من الباعة إن التجارة تقلصت بنسبة 95 في المئة خلال ثلاث سنوات.
وفي نفس واحد قالا "إن شاء الله سينقذ الجيش الشعب."