أحدث الأخبار
107 أعوام تفصلنا عن تشييد "مقهى ريش" الذي تأُسس عام 1908 بوسط البلد، انتقلت ملكيته بين الألمان واليونان، حتى آن له أن يحوزه المصري مجدي عبدالملاك، الذي رحل عن عالمنا اليوم السبت بعد معاناة مع المرض، ليكون بمثابة مركز ثقافي يبث الأفكار التنويرية والثورية.
تربع على موائد "مقهى ريش" عبر العقود المتتالية الأدباء والمثقفون المصريون والعرب، أبرزهم: نجيب محفوظ، يوسف إدريس، أمل دنقل، يحيى الطاهر عبد الله، صلاح جاهين، ثروت أباظة، نجيب سرور، الشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي، الشاعر الفلسطيني معين بسيسو، الشاعر السوداني محمد الفيتوري، وغيرهم.
أسس الأديب نجيب محفوظ صالونًا ثقافيًا بالمقهى، وكتب الروائي إبراهيم عبدالمجيد عن المقهى في روايتيه "الإسكندرية في غيمة" و"هنا القاهرة"، واسكتمل الشاعر أحمد عبدالمعطي قصيدة "لا أحد" بالمقهى، وألف الشاعر الراحل أحمد فؤاد نجم قصيدة للمقهى قائلا: "يعيش المثقّف على مقهى ريش.. يعيش يعيش يعيش.. محفلط مظفلط كتير الكلام.. عديم الممارسة عدو الزّحام.. وكام اصطلاح .. يفبرك حلول المشاكل قوام.. يعيش المثقّف .. يعيش يعيش يعيش".
صداقة عتيدة جمعت الروائي إبراهيم عبدالمجيد بصاحب مقهى ريش الراحل مجدي عبدالملاك، وألفة بالمكان ذاته "المقهى"، ذلك المكان الذي شكل مركزا للحياة الثقافية والوطنية وكان جزءا لا يتجزأ من تاريخ الحركات الثورية في أوائل القرن العشرين، بحد قوله.
جاء عبدالمجيد من الإسكندرية في ريعان شبابه هابطًا على مقهى ريش في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات، جاء ليصادق كوكبة من الأدباء والمثقفين الذين أثّروا وأثروا المشهد الثقافي العربي قاطبة، أمثال الأدباء نجيب محفوظ ونجيب سرور وصلاح عبدالقادر، ومن جيل عبدالمجيد سعيد الكفراوي وعبده جبير وغيرهم.
ولأن المكان يُشكل جزءا أصيلا في أعمال الروائي إبراهيم عبدالمجيد، حفلت أشهر روايتين له "الإسكندرية في غيمة" و"هنا القاهرة" بذكر "مقهى ريش"، وكأنه يستعيد الذكريات ويغوص في الماضي ويرسخ للحاضر.
لم يكن "مقهى ريش" وكرًا وعشًا لنميمة المثقفين، وإنما شهد إيدولوجيات عديدة، فيقول عبدالمجيد: خرجت منه حركات المقاومة وله دور في ثورة 25 يناير، كما شهد مقاطعتنا النشر في الجرائد والمجلات في عهد الرئيس الراحل محمد أنور السادات، ومعارضتنا معاهدة كامب ديفيد في سبتمبر 1978 التي وقعها السادات مع مناحم بيجن رئيس الوزراء الإسرائيلي.
حاز بعض من رواد "مقهى ريش" مكانة مرموقة في المجتمع الثقافي، فأعمالهم الأدبية الإبداعية كانت مبررًا صلبًا لأن يحصدوا أوسمة وجوائز ودروعا، وقد أكد الأديب بهاء طاهر عند تسلمه جائزة ملتقى القاهرة السادس للرواية العربية على أهمية أن يخرج الاحتفاء بالثقافة والمثقفين خارج نطاق "مقهى ريش"، فالمحافظات المصرية والقاهرة تحفل بالتجارب الجادة، لكتاب بعضهم غير معروفين، مؤكدا أهمية البحث عن هذه التجارب وتكريمها.
ورغم أن "مقهى ريش" يقع في أشهر مناطق القاهرة وأكثرها غلاءً في أسعار المحال والشقق السكنية، رجح عبدالمجيد أن ورثة "مقهى ريش" بعد رحيل مالكه مجدي عبدالملاك سيحافظون على هذا الصرح الثقافي، مشيرًا إلى أن المثقفين سيظلون متربعين حول هذا المقهى لما فيه من مذاق أخر وراحة نفسية.
وذكر الأديب بهاء طاهر أن الراحل مجدي عبدالملاك، صاحب مقهى ريش، حافظ على الدور الثقافي للمقهى منذ بداية القرن الماضي، وعلى الرغم من أن المقهى أُغلق في فترة ما لأسباب ترجع لخلاف الورثة، فأنه أصر على أن يواصل مسيرة المقهى الثقافية.
ووصف طاهر نفسه بأنه "زبون" دائم للمقهى، وكان جزءا من حركة نجيب محفوظ التي كانت تجتمع مساء الجمعة آنذاك، واستدعى طاهر من الذاكرة أحد المواقف الفكاهية التي حدثت معه على إحدى طاولات مقهى ريش، بأن الكاتب الراحل إبراهيم منصور خرج من المقهى متظاهرًا بمفرده فجأة.
ويعرف الشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي مقهى ريش منذ أكثر من خمسين عامًا، عندما كان يملكه أحد اليونانين المقيمين في مصر حتى اشتراه والد الراحل مجدي عبدالملاك عندما كان طالبا بكلية الطيران، قائلًا: "مقهى ريش" كان وما زال مركزًا ومنتدى ثقافيًا يجمع المثقفين حول مائدته، ولا يوجد فنان أو كاتب مصري لم يتردد عليه، لأن مجدي فتح ذراعيه للمثقفين المصريين والعرب على أشكالهم واختلاف إبداعهم.
وما كان لقصيدة "لا أحد" للشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي أن تُستكمل لولا وجوده بين أحضان المقهى، بلوحاته وصوره التي تحملها حوائط "مقهى ريش" وتثير إعجابه، واصفًا المقهى بالمتحف أو بمعرض للفن التشكيلي.
وذكر حجازي أن عددا من الكتاب والفنانين، منهم الشاعر حسن طلب، والشاعرة فاطمة ناعوت في اجتماع نُظم في المقهى، اقترحوا تنظيم صالون شهري بالمقهى يحمل اسمه، إلا أن حجازي اعتذر لأسباب ترجع إلى أن بعض الحضور كانوا على غير وفاق، الأمر الذي انزعج منه مجدي، صاحب المقهى، ونوى حجازي أن يعتذر له ويشرح له الموقف، إلا أن المنية وافته قبل أن يتم ذلك.