أحدث الأخبار
باستثناء "كفاح طيبة"، روايته التاريخية المبكرة، تكاد المقررات التعليمية بالمدارس في مراحلها المختلفة تخلو من أعمال نجيب محفوظ الإبداعية، والأمر ليس أفضل داخل الجامعات، حيث لا يتناسب بالمرة ما يتم تدريسه ومناقشته في الفصول الدراسية، كيفًا وكمًّا، مع إنتاج صاحب نوبل، أديب العربية الأعمق والأشهر.
في حديثه لـ"المقهى الثقافي"، يشير الناقد الدكتور محمد السيد إسماعيل إلى أنه من الأمور الملحة في اللحظة الراهنة إعادة النظر في مناهج التعليم المختلفة، بخاصة مناهج اللغة العربية، حتى نبتعد عن "التلقين"، الذي يثقل كاهل الطلاب، ولا يضيف إليهم شيئًا.
ويضيف د.إسماعيل: المطلوب تدريس ما يجدد ملكة التفكير الإبداعي والنقدي لدى الطلاب، ويساعدهم على تكوين الذائقة الجمالية والإبداعية القويمة.
وبالفعل، لم تلتفت المناهج التعليمية كما ينبغي إلى رموز الأدب العربي الحديث، وعلى رأسهم عميد الرواية العربية نجيب محفوظ، الذي نستطيع من خلال رواياته استقراء تاريخ الوطن كاملاً، خلال الفترات التي جرت فيها أحداث سردياته.
ويقول د.إسماعيل مستطردًا: لم تقرر من رواياته إلا "كفاح طيبة"، ربما لما فيها من حس وطني، لكنها ليست الأفضل فنيًّا بين أعماله، إذ تنتمي للمرحلة الأولى في كتاباته المسماة "المرحلة التاريخية". وأرى ضرورة اختيار روايات أخرى تنتمي إلى مراحل فنية متقدمة، مثل المرحلة الواقعية ويمكن أن تمثلها "الحرافيش"، والمرحلة الرمزية، ويمكن أن تمثلها "ثرثرة فوق النيل".
ويرى د.إسماعيل أن "أولاد حارتنا"، التي أسيء فهمها تمامًا من البعض باعتبار الجبلاوي رمزًا للإله، مع أن الرواية كلها تدور حول الصراع بين الخير والشر وتنتهي بانتصار العلم، يرى أنها قد أثرت بالسلب على انتشار أعماله في المناهج التعليمية، ويقول: مع الأسف الشديد، لقد تركت هذه التفسيرات الخاطئة آثارها السلبية على مجمل أعمال نجيب محفوظ، في التعليم المدرسي والجامعي، فلا يتم تدريس أعمال له على نطاق واسع كنماذج للرواية، بل إنه تم تكفيره من قبل بعض أساتذة الجامعة أنفسهم.
كذلك، يقول د.إسماعيل، فقد أضر بالنص المحفوظي اضطلاع بعض رجال الدين بتفسير أعماله، كما فعل مثلاً عمر عبد الرحمن، الذي ألف كتابا كاملا بعنوان "كلمتنا في أولاد حارتنا"، وقد ترتب على آرائه وفتاواه هو وغيره محاولة اغتيال محفوظ على يد أحد الشباب، ولم يكن قد قرأ أي عمل من أعماله .
أما الناقد رضا عطية، فيتحدث إلى "المقهى الثقافي" قائلا: لم يحظ أدب نجيب محفوظ بحقه من التكريس له كأدب يُقدم للطلاب، بسبب أن هناك ثقافة أو تيارات معادية لأدبه، إذ يروج بعض المتعصبين لفكرة تكفيره دون أن يقرأوه.
والكارثة الكبرى أن اختيارات المناهج التعليمية بالمدارس تسند إلى موجهي اللغة العربية، الذين لا علاقة لهم بالأدب الجميل أو بالأدب عمومًا في أغلب الأحوال.
وإن رواية "أولاد حارتنا"، يقول رضا عطية، عمل بديع، ولا أعتقد أنه عرقل مسيرته، لأن هؤلاء الذين لفظوا نجيب بدعوى "أولاد حارتنا" لا علاقة لهم بالأدب، ولم يطلعوا على هذه الرواية، ولا على غيرها من أعماله.
ويلتقط خيط الحديث الشاعر والناقد سمير درويش، ليقدم رأيًا مختلفًا، بقوله: الكلام عن أن نجيب محفوظ ظلم ولم يأخذ حقة مجافٍ للحقيقة، فقد طبع روايته الأولى "عبث الأقدار" عام 1943 وعمره 32 عامًا، وقد حصل على جائزة قوت القواب الدمرداشية في العام نفسه، وحصل على جائزة وزارة المعارف في العام التالي، وجائزة مجمع اللغة العربية بعد عامين.
ثم حصل على التشجيعية عام 1957، ووسام الاستحقاق من الطبقة الأولى عام 1962، وعلى التقديرية عام 1968، أي إنه حصل على كل الجوائز المتاحة وقتها قبل نوبل بعشرين عامًا، وحظي بمتابعة نقدية من كبار نقاد زمنه، واعترف له الجميع بريادة الرواية العربية، وجاءت نوبل نتاجًا لكل هذا.
أما القاص والكاتب سمير الفيل، فيقول في تصريحه لـ"المقهى الثقافي": أتصور أن أعمال نجيب محفوظ القصصية والروائية قد نالت رواجا كبيرا في أوساط المهتمين بالحالة الثقافية، لكنها لم تدرج في مناهج التعليم لأن البعض قد يرى في أحداث وشخصيات وزاوية المعالجة السردية للروايات بعض الخروجات عن سلم القيم، بدليل أن المسئولين أنفسهم خصصوا قصصا ليوسف إدريس وقصائد لصلاح عبد الصبور للدرس التعليمي.
لابد إذن من تغيير الذائقة لدى المسئولين، وهذا في تقدري صعب جدًّا، ويحتاج لوقت طويل في ظل تربص المتشددين الدينيين، الذين سيطروا على الشارع المصري لأزمنة ممتدة.
ويضيف سمير الفيل: ليست فقط رواية "أولاد حارتنا" هي التي صنعت هذه القطيعة بين دائرة الإبداع وحقل التعليم، بل ما تحمله النصوص الروائية من حرارة وواقعية وربما عفوية ممتعة، قد تبدو للبعض مقتحمة وجريئة. لذلك سيظل نجيب محفوظ بعيدًا عن حقل التعليم الرسمي، وإن كانت روايات الفترة التاريخية مثل "كفاح طيبة" و"رادوبيس" تصلح للمنهج تمامًا.
الأمر لا يخص الشللية، يقول سمير الفيل، لكنه يخص الخوف من الانتقاد، باعتبار أن القوى المحافظة هي التي تسود دوائر اتخاذ القرار بوزارة التربية والتعليم. لقد عملت مدرسًا لأربعين عامًا (الفترة من سنة 1971 إلى 2011)، وأدرك صعوبة تدريس نصوص حية، وواقعية، في وزارة محافظة، بل رجعية، بطبيعتها.