أحدث الأخبار
عندما تتصدع الأحزاب السياسية على أبواب الانتخابات النيابية فالمعنى أننا بصدد أزمة لا يمكن التهوين من آثارها السلبية على مستقبل الديمقراطية فى مصر.
بنص الدستور يتأسس نظام الحكم على التعددية الحزبية وتداول السلطة.
هذا التصدع يفضى مباشرة إلى تعطيل النص الدستورى بقوة الأمر الواقع، فلا تداول للسلطة بأى مدى منظور ولا رقابة جدية على أعمال السلطة التنفيذية تحت قبة البرلمان.
تعطيل الدستور هو تعطيل للديمقراطية.
القضية أخطر من أن تلخصها ثلاث استقالات متزامنة لرؤساء أحزاب «المصرى الديمقراطى الاجتماعى» و«الدستور» و«الحركة الوطنية».
كما لا تلخصها الصراعات المحتدمة فى بنية حزب «الوفد» ولا التراجعات الفادحة فى تماسك الأحزاب الأخرى ومستوى الثقة فى مستقبلها.
لكل أزمة قصتها الخاصة.
غير أنها معا تكاد تعلن إفلاس الحياة الحزبية المصرية.
استقالة الدكتور «محمد أبوالغار» من رئاسة «الديمقراطى الاجتماعى» ليست مفاجأة بذاتها.
أكد أكثر من مرة تأهبه لمثل هذه الاستقالة بعد الانتخابات النيابية مباشرة.
المفاجأة الحقيقية توقيت الاستقالة وأسبابها.
بلغ ضيقه، وهو طبيب له سمعته الدولية وفنان مطبوع قبل أن يكون سياسيا محترفا، من «الخلافات المحتدمة والشللية» حدا دعاه إلى مغادرة الحزب الذى أسسه قبل الانتخابات المقبلة.
خسارة حقيقية للديمقراطية أن يتصدع هذا الحزب الذى كان حصانا أسود فى أول انتخابات نيابية بعد «يناير» بأثر هذه الخلافات.
وهذه أخطر الأمراض المتوارثة فى الحياة الحزبية.
لا جديدة ولا طارئة.
لأسباب مشابهة فى ظروف مختلفة استقالت الدكتور «هالة شكر الله» من رئاسة حزب «الدستور».
لم تكن بدورها تطلب تمديد رئاستها غير أن الصراعات الداخلية المحتدمة دعتها أن تبكر فى المغادرة قبل إجراء الانتخابات الحزبية على المقعد الذى كانت تشغله.
ضيق آخر بنفس الظاهرة يضع مصير الحزب، الذى أسسه الدكتور «محمد البرادعى» أمام نفق مظلم.
كأى حزب ينشأ فى ظروف استثنائية فإن المنعطفات الحادة قد تقضى عليه كما صعدت به.
رغم تناقض التوجهات فإن استقالة «يحيى قدرى»، النائب الأول لرئيس حزب «الحركة الوطنية»، الذى أسسه الفريق «أحمد شفيق» تضعه أمام أسئلة المصير التى لا مفر منها.
هو الرئيس الفعلى لهذا الحزب، فـ«شفيق» خارج البلاد واستقالته تعنى اضطرابا متوقعا داخل عضويته وانشقاقات أخرى محتملة.
الاستقالات الثلاث فى توقيت متزامن تعبير عن أزمة عميقة فى الحياة الحزبية تضم اليسار واليمين على قدم المساواة، ثوار «يناير» ورجال العهد الأسبق بذات القدر.
لماذا تتآكل الأحزاب من الداخل على هذا النحو المتواتر؟
هناك ثلاثة تفسيرات كأنها خطوط متداخلة فى لوحة تشكيلية واحدة.
الأول، يعزو الانشقاقات الحزبية إلى الاختراقات الأمنية.
وتلك من ملامح التجربة الحزبية المقيدة على عهدى «أنور السادات» و«حسنى مبارك».
لم يكن الحزب «الوطنى» حزبا طبيعيا، فقد نشأ فى أكناف الدولة وأجهزتها الأمنية.
ولا كان مسموحا لمنافسيه أن يتجاوزوا الخطوط الحمر المرسومة فى لعبة صممت لمصادرة أى نزوع لتداول السلطة.
فى حالات كثيرة تكفل الأمن بضرب الأحزاب الناهضة من الداخل باستخدام ثغراتها فى الانقضاض عليها.
القصة طويلة وموجعة فى الإجهاز العمدى للحياة الحزبية قبل أن تأخذ مداها وتبلور برامجها وتكتسب ثقة جمهور الناخبين.
والثانى، يسند الانشقاقات إلى تجفيف المجال السياسى الضرورى لحيوية العمل الحزبى.
طالما ليست هناك فرصة للاحتكام إلى الناخبين فى انتخابات حرة ونزيهة ولا فرصة من أى نوع لتداول السلطة يفقد العمل الحزبى جدواه ويتحول إلى شىء من الديكور حتى يقال إن لدينا ديمقراطية دون أن تتوفر أدنى مقوماتها.
والثالث، يرجع الانشقاقات إلى غياب أية قواعد فى العمل التنظيمى لها صفة الاحترام وأية برامج لها القدرة على إلهام التماسك.
وهذه مسألة تعود إلى طبيعة نشأة الأحزب المصرية.
فى الحقبة شبه الليبرالية بين ثورتى (١٩١٩) و(١٩٥٢) تلخصت قوة «الوفد» فى زعامته قبل بنيته وفى الخطاب قبل البرنامج.
لم تكن الأحزاب الأخرى على ذات قدر حضوره السياسى، بعضها نشأ تحت عباءة القصر الملكى وبعضها الآخر عبر عن تطلعات جديدة فى عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية.
أحزاب السلطة الملكية تشبه إلى حد كبير بنية الحزب الوطنى، فهى أحزاب أصحاب المصالح.
والأحزاب الجديدة فى الأربعينيات تشبه إلى حد ما أحزاب بعد ثورة «يناير».
طاقة احتجاج قبل أى شىء آخر.
تبشر بعالم جديد دون امتلاك أدوات تغييره.
غير أن قوى الأربعينيات بدت أكثر تماسكا وصلابة.
أيديولوجياتها واضحة وانحيازاتها حاسمة.
ما جرى بعد «يناير» أقرب إلى تجمعات سياسية فضفاضة.
كان لافتا أن يصرح الدكتور «أبوالغار» أن مهمته أخفقت فى محاولة وضع أيديولوجية للحزب الذى يترأسه.
فى اختلاف المكونات الأيديولوجية للحزب أزمة كامنة انفجرت.
غير أن الأحزاب التى تعبر عن تيارات فكرية كبرى لم تسلم من انفجارات داخلها همشت أدوارها ووضعتها على خط الانشقاقات المتوالية.
لم يعد «الوفد» الليبرالى أقدم الأحزاب المصرية على شىء من التماسك الفكرى والسياسى وخفت بريقه تحت وطأة صراعاته.
ولم يعد حزب «التجمع» اليسارى على شىء من هذا التماسك الذى أضفى على أدواره فى أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات من القرن الماضى بريقا كبيرا.
ويكاد الحزب «الناصرى» القومى أن يختفى نبضه تماما على المسرح السياسى رغم أنه فى سنواته الأولى بدا مرشحا لاحتلال مكانة متقدمة فى الحياة العامة.
كل هذه الأحزاب نشأت فى ظل التعددية المقيدة.
تحدت ما هو مقيد ودخلت معارك مفتوحة مع الأمن غير أن الانشقاقات سحبت من منسوب قوتها.
بعد «يناير» تبدت آمال كبيرة فى إحياء التعددية الحزبية بعد رفع يد الأمن عن أى تدخل فى أعمالها.
التجربة لم تستوف وقتها ولا أصحابها صبروا على تفاعلاتها الطبيعية.
لا الذين تمردوا على عباءة اليسار المهلهلة طرحوا بديلا ملهما ولا الذين خرجوا عن عباءة اليمين المتهالكة نجحوا فى بناء قوة سياسية تحظى بالاحترام.
المعضلة الحقيقية أن مصر هدمت السياق القديم لكنها لم تؤسس لسياق جديد.
فى الحملة المنهجية على الأحزاب هجوم صريح على الديمقراطية نفسها يحاول أن يستعيد الماضى.
لاديمقراطية بلا تعددية ولا تعددية بلا أحزاب.
قضية الأحزاب أخطر من أن تترك للحزبيين وحدهم.
كل حزب يعبر عن انحيازات اجتماعية بعينها وهو جهاز انتخابى يسعى لدخول البرلمان وتشكيل الحكومة وفق برنامج يطرحه على الرأى العام ليكتسب ثقته فى صناديق الاقتراع.
بقدر ما تكون البرامج واضحة تكتسب الأحزاب أهليتها السياسية.
تصدع الأحزاب على أبواب الانتخابات النيابية أقرب إلى نسف أية رهانات ديمقراطية.
بعض الذين يهللون لتصدع الأحزاب لا يدركون أن الفراغ السياسى ربما يقوض كل شىء فى هذا البلد.