أحدث الأخبار
تمثل تجربة التحولات الشاملة التى عرفتها جمهورية الصين الشعبية منذ قيامها فى سنة 1947 نموذجا ألهم الكثيرين فى جميع أنحاء العالم على الرغم من التقلبات الحادة فى هذه التجربة. اجتذب هذا النموذج فى مرحلته الأولى تحت قيادة ماوتسى تونج الزعيم التاريخى للحزب الشيوعى الصينى الشباب المتحمس للعدالة الاجتماعية والذى كان ينفر من النموذج السوفييتى ببيروقراطيته وبسجله الدامى فى التعامل مع الفلاحين، وبعد وفاة ماوتسى تونج وصعود دنج هشياو بينج والذى انقلب على سياسات الزعيم التاريخى مشجعا القطاع الخاص والاستثمار الأجنبى، استمرت الصين نموذجا يحتذى بمعدلات نموها العالية وغير المسبوقة فى التاريخ والتى كانت تتجاوز فى بعض السنوات 10%، والذى جعلها أكبر اقتصاد فى العالم، وبتفوقها العلمى الذى قفز بجامعاتها إلى صدارة الجامعات العالمية، فمنها أربع جامعات ضمن أفضل مائة جامعة فى العالم، وبمشاركتها الجسورة فى سباق الفضاء، وبنجاحها فى انتشال مئات الملايين من البشر يمثلون نصف سكانها من قبضة الفقر، وأخيرا بنمو قوتها العسكرية التى أصبح أسطولها يجوب البحار والمحيطات رافعا علم الصين فى مواقع تبعد عنها بآلاف الأميال.
•••
والواقع أن هذه الإنجازات جعلت من نموذج التنمية الاقتصادية والاجتماعية فى الصين نموذجا يتحدى النموذج الليبرالى القائم على الملكية الخاصة وإطلاق الحريات المدنية والسياسية. بل إن تراجع مسيرة الديمقراطية فى البلاد العربية واستقرار الحكم السلطوى فى روسيا والكساد الذى يضرب الدول الرأسمالية المتقدمة أو الانتعاش الهش فى اقتصاد الولايات المتحدة يجعل بعض حكام الجنوب يتطلعون إلى الصين باعتبارها هى النموذج الملائم من وجهة نظرهم، فهى تقدم تبريرا سهلا لهم لرفضهم التحول الديمقراطى الحقيقى فى بلادهم تحت دعوى أنه يمكن إنجاز النمو الاقتصادى ومحاربة الفقر مع التضييق على حريات التعبير والتنظيم واحتكار السلطة السياسية فى أيدى إحدى مؤسسات الدولة أو شخصيات أو عائلات معينة.
ولاشك أنه مع هذه الإنجازات التى حققتها الصين هناك الكثير مما يمكن بل ويجب تعلمه، حتى وإن كانت الاستفادة من هذا التعلم تمر بتطويعه لأوضاع الشعوب الراغبة قياداتها فى مثل هذا التعلم، كما أن هناك جوانب للإخفاق فى هذا النموذج سوف تمثل تحديات هائلة له فى الحاضر والمستقبل القريب، يجب أخذها فى الاعتبار.
•••
دروس النجاح هائلة، فى مقدمتها المثابرة على أسلوب التخطيط لدفع النمو فى الاقتصاد واسترشاد التخطيط باستراتيجيات طموحة لا تقفز على قدرات الدولة ولكنها توجهها نحو أهداف تلقى توافقا واسعا فى المجتمع، ولاشك أن استراتيجية التحديثات الأربعة التى بدأتها الصين فى سبعينيات القرن الماضى والتى ترجمها المخططون لاقتصاد الصين إلى خطط خماسية متعاقبة، وآخرها هى الخطة الثانية عشرة هى المسئولة عما أحرزته الصين من قفزات هائلة فى المجالات الأربع لهذه التحديات وهى تحديث الصناعة والزراعة والعلم والتكنولوجيا والدفاع الوطنى.
وبطبيعة الحال اختيار ما يمكن تعلمه وما يجب تفاديه فى التجربة الصينية هو أمر يتوقف على التوجه الفكرى ونمط القيم لدى من يقوم بالاختيار، ولكن هناك جوانب فى التجربة الصينية فى مرحلتها الثانية هى بكل تأكيد موضع إجماع بين المتابعين لهذه التجربة.
فى مقدمة الدروس المفيدة هناك سياسة العلم والتكنولوجيا فى الصين والتى اقتضت الاهتمام بالجامعات ومراكز البحث العلمى، فوظيفتها أولا إعداد العلماء وثانيا الانشغال بالبحث العلمى فى جميع المجالات. إن الاهتمام بالجامعات هو الذى مكن الصين من أن تترجم الكم إلى كيف متميز.. وهكذا أصبحت ضخامة عدد الصينيين ميزة كبرى للتنمية وليست عبئا عليها. صحيح أن الحكومة الصينية اتبعت سياسات قاسية لخفض معدل زيادة السكان باشتراط أن تكتفى كل أسرة بطفل واحد، ومع ذلك ما زالت الصين هى أكبر دولة فى العالم من حيث عدد سكانها، ولكن، وهذا أمر مدهش، لا تعانى الجامعات الصينية من ازدحام الطلبة فيها، لأن الحكومة الصينية قصرت التعليم الجامعى على من يقدر عليه من حيث تحصيله الدراسى، وليس من حيث القدرة المالية. تحدد كل جامعة العدد المطلوب من الطلبة الجدد وفقا لما تسمح به مدرجاتها ومعاملها وحجم هيئة التدريس فيها، ولا تقبل ما يتجاوز هذا العدد، ولا تفرض عليها الحكومة أعدادا تفوق إمكاناتها كسبا للشعبية أو خضوعا لضغوط الرأى العام. وهكذا تقدم الجامعات الصينية لطلبتها تعليما راقيا لا يقل فى مستواه عما تقدمه أعرق الجامعات الغربية، وتتيح لأساتذتها بيئة حافزة للبحث العلمى الذى تفوقوا فيه وترجمة الاقتصاد والمجتمع والدولة إلى إنجازات جعلت الصين تكتفى فى إنتاج الغذاء وتنافس بصادراتها الدول الصناعية المتقدمة وتكسب أسواق هذه الدول على نحو يترجم بفائض هائل فى ميزان مدفوعاتها، وترتفع بصناعاتها العسكرية إلى الحد الذى يجعلها مصدر قلق للقوى البعيدة عن آسيا التى تواصل استعراض قوتها العسكرية فى المحيط الهادى قريبا من سواحل الصين.
•••
وثانى هذه الدروس هو تعامل الصين مع الاستثمارات الأجنبية. الشركات الدولية موضع الترحيب، ولكن بشرط أن تنقل تكنولوجياتها المتقدمة إلى الصين وأن تدرب الصينيين على استخدامها. أسلوب «تسليم المفتاح» الذى يقصر دور المستثمر الأجنبى على تصدير معدات دون تمكن الطرف المستفيد من اختيار الفن الإنتاجى والتعرف على كيفية التصميم بل والمشاركة فيه هو ما ترفضه الصين. وقد اجتذبت الشركات الدولية بحجم سوقها الهائل ولكنها ترجمته إلى قوة تفاوضية جعلتها تفرض شروطها على هذه الشركات، وجعلتها تصبح منافسا لهذه الشركات فى نفس حقول الإنتاج التى دخلتها فى الصين فى المحل الأول.
وهناك درس ثالث لا يعرف أحد كيف يتلقنه آخرون لارتباطه بالثقافة الصينية ذات الطابع الجماعى ألا وهو القدرة على العمل بروح الفريق. لا نعرف الكثير عن خلافات داخل الحكومة الصينية أو داخل قيادة الحزب الشيوعى فيها. ولكن من الواضح وربما منذ انتفاضة يونيو 1989 التى نادت بإطلاق الحريات المدنية والسياسية، والتى أعقبها عزل الأمين العام للحزب الشيوعى الحاكم، لم تطف على السطح تقارير عن خلافات حادة داخل هذه القيادة، وأصبح الانطباع السائد هو تضافر جهود كافة القيادات من أجل إنجاح برامج التحول الاقتصادى والاجتماعى. هذه القدرة على العمل الجماعى هى سمة مميزة للمجتمع الصينى على كافة المستويات وفى كافة المجالات. يعرفها الفلاحون الذين يزرعون الأرز بما يستلزمه من تعاون، كما يعرفه عمال الصناعة والخدمات بما فيها المقاولات، وقد خلبت لب الكثيرين ممن راقبوا الصينيين وهم يعملون.
•••
تبقى جوانب أخرى لصيقة بالتجربة الصينية قد تمثل تحديات كبرى لها قد لا تستطيع تجاوزها بسهولة. أولها فى المجال السياسى. فعلى الرغم من وجود أحزاب أخرى إلى جانب الحزب الشيوعى الصينى إلا أنها لا تملك نفوذا وليس لها وجود فاعل فى الحياة السياسية فى البلاد. الصين أقرب إلى حكم الحزب الواحد. وهناك قيود على حرية التعبير شكا منها المثقفون الصينيون. كما أن شرعية الحزب الشيوعى تتهاوى مع اتباعه سياسات أدت إلى نمو الرأسمالية فى الصين وابتعادها عن مسار التطور الاشتراكى، ولذلك مال كثير من قياداته إلى السعى للإثراء السريع بمخالفة القانون وعقيدة الحزب. وانتشر الفساد بين قياداته وكبار المسئولين وهو ما اعترفت به قيادة الحزب الشيوعى ذاته. فهل تبقى الصين على استقرارها السياسى وحكومتها تضيق على المثقفين وعلى الأقليات الدينية من أصحاب العقائد المختلفة؟.
وفى المجال الصناعى تواجه الصين تحديا آخر أصبح مثار قلق عالمى. فالنمو الصناعى السريع فى الصين جاء على حساب البيئة، وأصبحت المدن الصينية تعانى من مستويات عالية من التلوث إلى الحد الذى اقتضى وقف عمل المصانع القريبة من بكين عدة أيام أثناء افتتاح الدورة الأوليمبية العام الماضى حتى لا تحجب سحابات الدخان المنبعث منها اضواء حفل الافتتاح. الصين هى من أكبر الملوثين للهواء فى العالم. ولذلك سوف ترتفع تكلفة مقاومة آثار هذا التلوث على سكان الصين فى السنوات القادمة ما لم تنجح جهود الحكومة والمجتمع فى الصين على الحد منه وبدرجة كبيرة.
هذه بعض أبعاد تجربة نجاح العملاق الصينى جديرة بالتأمل، والتطلع إلى مجاراتها. إذا كان هذا البلد صاحب الحضارة العريقة الثرية والذى كان سكانه من أفقر سكان العالم قد نجح إلى هذا الحد، فلماذا لا ننجح نحن، ولدينا حضارة عريقة، والتحديات التى تواجهنا هى بكل تأكيد أقل جسامة مما واجهته الصين؟