الهواة فى مقاعد الحكم والميليشيات فى التحرير

الخميس 18-10-2012 AM 11:52

جلست كعادتى أتابع نشرة أخبار التاسعة فى القناة الأولى المصرية، وفائدتها الوحيدة أن يعرف المرء الاتجاه الرسمى للرياح السياسية، فإذا بى أفاجأ بقرار تعيين النائب العام سفيرا لمصر لدى الفاتيكان.

أصابنى شعور بالصدمة لأن القرار يخالف صحيح القانون الذى يحصن النائب العام ضد العزل وفقا لقانون السلطة القضائية، ولم يذكر الخبر أى شىء عن استقالة النائب العام أو موافقته على منصبه الجديد بما يحصن قرار رئيس الجمهورية ضد شبهة العزل. أصابنى الإحباط أيضا لأن القرار مثل عودة إلى ذلك التقليد السخيف الذى عرفته مصر حينا من الدهر بتعيين المغضوب عليهم فى مناصب السفراء بغض النظر عن تخصصهم، ولتذهب السياسة الخارجية إلى الجحيم.

فى نهاية النشرة أُجريت اتصالات تليفونية مع عدد من قضاة مصر معظمهم ممن بلغوا سن التقاعد فانقسموا ما بين قائل بأن القرار مجافٍ تماما لصحيح القانون وقائل بأنه ما دام النائب العام قد استقال فلا غبار على ما حدث.

ولم يكن فعل الاستقالة مذكورا لا فى نص النشرة ولا فى نص القرار الذى تصدى مدير مكتب رئيس الجمهورية لإذاعته. لكننى روعت بموقف نفر من المحسوبين على الثورة ذهبوا إلى الترحيب بالقرار الذى كانت ملاحظتهم الوحيدة عليه أنه تأخر طويلا، وتعجبت كيف لناشطين سياسيين ثوريين ناهيك عن أن يكونوا فى مواقع قيادية فى هذا الفصيل أو ذاك أن يضحوا بالقانون بهذه السهولة، ويساهموا فى دق المسامير الأخيرة فى نعش الثورة والدولة معا.

 كان واضحا أن رئيس الجمهورية أراد من القرار الباطل أن «يدغدغ» مشاعر الجماهير الغاضبة من أحكام البراءة فى موقعة الجمل، ولعله لم يكن يدرى انه «يزلزل» بهذا أركان دولة القانون فى مصر.

حدثتنى نفسى بأن الأزمة بين «الشرعية القانونية» و«الشرعية الثورية» ما زالت مستمرة، «فالثوار» يفرحون لأحكام المحاكم عندما تتفق ووجهات نظرهم، ويغضبون إن لم تلب هذه الأحكام مطالبهم.

بل إن البعض وفى مقدمته «الإخوان المسلمون» تحسب فى هذا الإطار لأحكام قد لا تأتى على هواه، فاعتاد أن يحشد أنصاره أمام المحاكم فيما لا يمكن أن يسمى إلا بأنه محاولات لإرهاب قضاتها، أو على الأقل الضغط عليهم مما دعا أحد القضاة الأجلاء وكان بسبيله إلى إصدار حكم مع أعضاء دائرته فى إحدى القضايا الحساسة إلى القول بأنه لا توجد قوة على الأرض تستطيع أن ترهب القضاة، وتكرر السلوك نفسه بعد القرار الباطل بتعيين النائب العام فى منصب دبلوماسى، إذ تجمع المئات من «الإخوان المسلمين» أمام دار القضاء العالى حيث يقع مكتب النائب العام تأييدا للقرار، وكأننا إزاء لعبة «شد الحبل» وليس الدفاع عن دولة القانون.

 أصابنى الغم والكمد إذن من قرار رئيس الجمهورية، لكن نسائم ليالى الخريف المنعشة ما لبثت أن حملت معها تطورات تبعث على التفاؤل، فقد صرح النائب العام تعليقا على القرار الذى لم يكن عمره قد تجاوز الساعات بأنه لم يقدم استقالته ولم يقبل منصب السفير، وأنه باقٍ فى منصبه.

ها نحن إذن إزاء رجل يستطيع أن يقول «لا» واضحة عالية لأعلى سلطة فى الوطن. فى صباح اليوم التالى مباشرة أصبحت الصورة أوضح بكثير، وكشفت تصريحات النائب العام عن أمور خطيرة، فقد اتصل به كل من وزير العدل والمستشار حسام الغريانى، وكان فحوى الاتصالين تهديدا فجا للنائب العام حيث أبلغاه أنهما يتصلان به من مقر رئاسة الجمهورية (لاحظ الدلالة)، وذكر له وزير العدل أن المظاهرات التى ستخرج يوم الجمعة سوف تطالب بإقالته من منصبه، ومن ثم فإن عليه أن يترك منصبه على الفور.

أما المستشار الغريانى فقد زاد فى التهديد بأن المتظاهرين «يمكن أن يتوافدوا على مكتبك، وأن يقوموا بالاعتداء عليك على نحو ما جرى للمرحوم المستشار عبد الرزاق السنهورى رئيس مجلس الدولة الأسبق (فى بدايات ثورة يوليو).

لم أعجب لموقف وزير العدل فله موقفه «السياسى» المعروف من القضاء الذى يفترض أنه أول حماته فى السلطة التنفيذية، ولقد سبق للرجل أن سفَّه حكم المحكمة الدستورية العليا بحل مجلس الشعب وها هو يهدد النائب العام بالمظاهرات الغاضبة التى يعلم أنها قد تكون من جماهير الثورة أو «غوغائها»، بل إنه زاد بالقول بأن رئيس الجمهورية لو أراد إقالته لغير التشريع.

هكذا يتحدث وزير العدل ببساطة فائقة عن احتمال العصف بالسلطة القضائية، ومن المؤكد أنه كان يعرف أن مكتب النائب العام ليس هو المسئول عن إحالة ملف «موقعة الجمل» إلى القضاء، لأن قضاة التحقيق المنتدبين من وزارة العدل كانوا هم المسئولون عن القضية.

لكن صدمتى فى المستشار الغريانى كانت شديدة، فقد كنت أحترمه كثيرا رغم خلافى مع آرائه، وتألمت كثيرا من حديثه الصريح إلى النائب العام بأن مصيره قد لا يختلف عن مصير المستشار الجليل عبد الرزاق السنهورى بسبب المظاهرات التى تتوافد على مكتبه، وقد تقدم على تكرار هذا الفعل القبيح الذى ما زال نقطة سوداء فى تاريخ ثورة يوليو.

أهكذا تدار أمور السلطة القضائية الشامخة التى حمت مصر كثيرا من تغول الحكام واستخفافهم بالقانون؟ أيكون الخوف من الضرب بالأيدى أو بالأحذية وليس الحفاظ على الاستقلال هو نبراس العمل فى السلطة القضائية؟ وفى الواقع فإن الرعب قد انتابنى عندما تذكرت أهمية المناصب الرفيعة التى يتبوأها المستشار الغريانى على رأس مجلس حقوق الإنسان والجمعية التأسيسية للدستور.

 وعندما انتهت الأزمة بانتصار مؤزر للنائب العام والسلطة القضائية بدأ نوع من الارتباك المضحك المبكى يسود تصريحات الفريق الرئاسى: تضاربت مع بعضها البعض، وأكدت وقائع غير صحيحة أو على الأقل غير مثبتة، ونفت أمورا مؤكدة.

باختصار فعل الفريق الرئاسى كل شىء إلا التمسك بفضيلة الرجوع إلى الحق، ويأتى فى سياق الارتباك الادعاء بأن مجلس القضاء الأعلى قد «التمس» من رئيس الجمهورية الإبقاء على النائب العام فى منصبه وأن سيادته استجاب مشكورا لهذا الالتماس، وقد صدر بيان عن المجلس ينفى هذه الواقعة جملة وتفصيلا، بل إن البيان لم يستخدم أصلا تعبير «طلب» من رئيس الجمهورية، ولو كان المجلس قد التمس أو طلب لكان هذا عملا من أعمال هدم السلطة القضائية، لأن معناه الوحيد أن قرار رئيس الجمهورية خالٍ من العوار القانونى والمطلوب منه أن يترفق بالسلطة القضائية حفاظا على مشاعرها. انتهت الأزمة كما يجب لها أن تنتهى مهما قال أعضاء الفريق الرئاسى، لكن من يتصور أن الخطر الداهم على مستقبل مصر قد انتهى يخطئ كثيرا فى حق هذا الوطن.

نذر الخطر عديدة دون شك، ففى اليوم التالى للقرار كانت ميليشيات «الإخوان المسلمين» تصول وتجول فى ميدان التحرير، وتضرب وتصيب وتلحق الأذى بخصوم رئيس الجمهورية، وتحطم منصتهم بغل واضح لم تقصر الصور الفوتوغرافية فى التعبير عنه، وكل هذا فى غياب تام لجهاز الشرطة الذى لا يدرى المرء متى يتعين عليه أن ينزل إلى الشارع لحماية المواطنين من العنف المقصود، لكن الأخطر من ذلك أنه لا تبدو ثمة نية لمحاسبة المعتدين، وهو ما حدث بالفعل فى مواقف مماثلة مما يعنى أننا أمام دولة رسمية ودولة خفية، فالدولة الرسمية يتخذ رئيسها من القرارات ما يحاول إرضاء الناس، لكن الدولة الخفية تحقق بالعنف والإرهاب ما لا يليق برئيس الجمهورية أن يحققه.

كذلك يأتى الخطر من النبرة الآخذة فى العلو لتهديد رئيس الجمهورية خصوم الثورة بالقانون (كله بالقانون)، وقد ذكرنى هذا «بمفرمة» الديمقراطية وأنيابها فى عهد الرئيس السادات مع فارق مهم هو أن السادات لم يكن مشرعا بينما يجمع رئيس الجمهورية الآن بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، أى أنه يستطيع أن يضع ما يشاء من قوانين ترهب خصوم الثورة، أو بالأحرى خصومه.

كذلك فإن الخطر مستمر لأن التنظيمات الإسلامية المختلفة ما زالت رغم كل ما جرى تدعو لمليونيات لإسقاط النائب العام، وكأنهم كآل البوربون فى فرنسا بعد أن عادوا إلى الحكم: لم يتعلموا شيئا ولم ينسوا شيئا.

تبقى فى النهاية أسئلة مهمة لرئيس الجمهورية: لماذا الإصرار على مخالفة صريح القانون وهو إصرار ينال دون شك من صدقيته خاصة وأنه سرعان ما يتراجع فى كل مرة بطريقة لا آتى على وصفها الحقيقى تأدبا؟ ومن هم يا ترى مستشارو الرئيس فى هذه القرارات العجيبة علما بأن نائبه قاضٍ جليل؟ ومتى يغير الطاقم الذى يضعه فى أزمة تلو الأخرى ليخرج خاسرا فى كل مرة؟ وهو أمر ينذر بكل سوء خاصة وأن ثمة احتمالا فى أن «حزب الحرية والعدالة» يقف وراء كثير من الضغوط التى تفضى إلى هذه القرارات الباطلة، وأن «مكتب الإرشاد» شريك أصيل فيما يجرى، وليس لهذا من معنى للأسف سوى أن الوطن ما لم تنتبه القوى المستنيرة فيه وتوحد حركتها يسير حثيثا نحو طريق حالك الظلمة لن يفضى إلا إلى الهلاك نفسه.  

تعليقات الفيسبوك