أحدث الأخبار
بثقة فى دوره الذى أداه وصورته التى استقرت قال: «أنا آخر الباباوات العظام الذين قالوا لا للمحتل الأجنبى».
سألته وجهاز التسجيل بيننا: «لكن ماذا بعدك يا قداسة البابا؟».
أجاب بذات الثقة: «أنا مدرسة لها تلاميذ سوف يرفعون الراية بعدى».
لم يكن يبالغ فالكنيسة الوطنية المصرية التى يرأسها لها تاريخ عريق ممتد ومواقفه التى اتخذها فى مناهضة التطبيع لم يبدأها من فراغ، فقد حرم سلفه البابا «كيرلس السادس» زيارة القدس بعد احتلالها عام (١٩٦٧).
فى لحظة مضطربة من التاريخ المصرى المعاصر وجد نفسه أمام اختبار صعب، فإما أن يماشى الرئيس الأسبق «أنور السادات» فى تطبيع العلاقات مع إسرائيل إثر معاهدة السلام التى وقعت عام (١٩٧٩) وإما أن يرفض ويتحدى ويدخل فى صدام.
للصدام مع الدولة عواقبه الوخيمة لكنه لم يتردد ولا اهتز خياره بالتحدى، فالخيار الآخر يعزل أقباط مصر عن التيار العام فى مجتمعهم ويصطنع تناقضات تضرب فى وحدة النسيج الاجتماعى ويشجع التيارات المتطرفة على أن تنال منهم.
بكلمات يعرف كيف يصوغها، فهو شاعر ومثقف، قال: «لسنا خونة الأمة العربية».
فى البداية أعلن: «لن أزور القدس إلا مع شيخ الأزهر».
كرر هذا المعنى بإلحاح غير أنه فى لحظة تنبه إلى احتمال أن يفعلها شيخ الأزهر، وهو ما لم يحدث.
عدل صياغته إلى: «لن أزور القدس إلا بعد اعتراف الدول العربية والإسلامية جميعها بإسرائيل».
سألنى ذات مرة: «هل يمكن أن يعترف العالمين العربى والإسلامى دون استثناء واحد بإسرائيل؟».
أجبته والحوار بيننا لم ينقطع فى منتصف تسعينيات القرن الماضى: «لا».
قال: «إذن لن أذهب للقدس أبدا».
هذا الكلام كله نشر فى حينه.
كلما زادت التحديات رفع سقف تشدده العروبى والوطنى.
بتحديه للتطبيع وجد فيه مسيحيو الشرق رمزا للانتماء العربى وقائدا روحيا فريدا.
رغم أنه رجل دين فإنه بتكوينه الشخصى سياسى يدرك الحقائق حوله ويعرف كيف يتصرف فيها ومستعد طوال الوقت لدفع الأثمان، وقد دفعها فى أحداث سبتمبر (١٩٨١) بعزله من منصبه قبل أن يعود إليه سريعا فى ظروف جديدة أعقبت اغتيال الرئيس «السادات».
أسوأ ما قيل فى تبرير زيارة القدس المفاجئة لخلفه على الكرسى الباباوى «تواضروس الثانى» «إنها تكسر هوس دراويش العروبة ورافضى التطبيع»، بحسب كاتب قبطى.
الكلام بنصه عدوان صريح على إرث البابا «شنودة» وتعريض بدوره الاستثنائى فى تاريخ الكنيسة المصرية.
إرثه الوطنى لا يخص أقباط مصر وحدهم، فقد تجاوز أسوار الكاتدرائية إلى التفاعلات الصاخبة فى مجتمعه ومحيطه وعالمه.
لسنوات طويلة لم يكن أحد له قيمة أو وزن فى العالم العربى يزور القاهرة إلا ويطلب زيارته والاستماع إليه.
بكل احترام أدعو البابا «تواضروس»، وهو من تلاميذ البابا الراحل، إلى لجم أية عبارات طائشة حتى لا تتقوض صورة أقباط مصر ويكون ذلك مدعاه للتحرش الطائفى والتخوين على الهوية الدينية.
إنها نتيجة كارثية محتملة لقرار خاطئ سياسيا حرص «شنودة» على تجنبها ودخل فى صدام مفتوح مع «السادات» حتى لا يصل إليها.
فى الانتماء العربى حصانة لمسيحيى الشرق وحمايتهم فى مجتمعهم لا من خارجه.
أفضل ما ينسب لإرث «شنودة» أن جماعات المثقفين التى ناهضت التطبيع وجدت فى مواقفه المعلنة قوة معنوية مضافة لما تدعو إليه وتتبناه فى مواجهة احتلال إسرائيلى غاشم ينكل بالفلسطينيين وينال من المقدسات الإسلامية والمسيحية معا.
أرجو ألا يستهتر أحد فى هذا البلد بإرث «شنودة» فالتفريط المجانى خطأ سياسى فادح لا يمكن تجنب آثاره السلبية.
التوقيت نفسه مشكلة، فالمقدسيون من مسلمين ومسيحيين يتعرضون للتقتيل اليومى والمسجد الأقصى مهدد فى وجوده.
سألنى البابا «شنودة» وهو يغلق جهاز التسجيل: «حاشا لله أن يحدث ذلك، لكن ماذا سوف يفعل العرب والمسلمون إذا أقدم الإسرائيليون على قصف المسجد الأقصى ثم يقولون إن مجنونا فعلها؟».
أجاب عن سؤاله بنفسه: «أخشى أن يكون أقصى ما نفعله إصدار البيانات التى تشجب وتندد وبعض المظاهرات التى تخرج ثم تتوارى بالوقت».
قضية القدس رمزية على المستويين الدينى والسياسى للمسلمين والمسيحيين معا.
فى المسائل الرمزية أى خطأ يصعب ترميمه بسهولة.
رغم أى تعلات أسندت زيارة البابا «تواضروس» إلى أسباب رعوية لا سياسية لتقديم واجب العزاء فى رحيل مطران القدس الذى تعلم على يديه فإن الشرخ قد حدث.
يصعب بعده ضبط الأداء العام للكنيسة المصرية فى حظر السفر للقدس رغم تأكيدها المعلن أن موقفها ثابت ولم يتغير.
إذا كان رأس الكنيسة نفسه قد فعلها فيمكن لكثيرين أن يقولوا إن لديهم أسبابا إنسانية مشابهة.
الأسباب الإنسانية لا تبرر الأخطاء السياسية عندما تتعلق بالخيارات الكبرى.
هذه حقيقة يجب عدم إغفالها.
ينبغى التذكير مبكرا بأن أية مساجلات فى مثل هذه الملفات الحساسة لابد أن تتمتع بشىء من الانضباط فى استخدام العبارات حتى لا نخسر كل شىء بأخطاء متبادلة فى التقدير السياسى.
حتى لا ننسى يحسب للبابا الحالى قوله البليغ: «وطن بلا كنائس أفضل من كنائس بلا وطن».
أثناء ثورة (30) يونيو تجنب أحاديث الفتن ووجد حماية المسيحيين فى الانتماء الوطنى والحفاظ على النسيج الاجتماعى.
عبارته البليغة تستلهم بصياغة جديدة قول سلفه الراحل: «مصر ليست وطنا نعيش فيه بل وطن يعيش فينا».
بقدر الرهان على البابا «تواضروس» والأمل فيه فإن الصدمة لا يمكن إنكارها.
بحكم تكوينه الشخصى فهو عروبى منذ أيام دراسته الجامعية وينتمى للتيار العام للثورة المصرية من يوليو إلى يناير ويونيو.
رغم أن منصبه الرفيع دينى لا سياسى فإنه من الضرورى قبل اتخاذ أية خطوات صادمة دراسة تبعاتها.
التقدير السياسى مسألة ضرورية وإلا فإن الأخطاء سوف تتكرر.
القرار يتحمله البابا وحده غير أن الدولة بدت متحمسة، شجعت الفكرة وتولت إجراءات السفر.
لا يبدو أن هناك تنبها لمدى الآثار السلبية لمثل هذه الزيارة على صورة مصر وأدوارها المحتملة فى إقليمها.
لا يمكن لهذا البلد أن يستعيد دوره إذا لم يمتلك خطابا سياسيا واضحا وملهما فى القضية الفلسطينية.
مهما تدهورت هذه القضية إلا أنها تظل البوصلة الرئيسية التى يقيس عليها المواطنون العاديون فى العالم العربى أوزان النظم وطبيعتها.
لهذا السبب كان التصويت المصرى لصالح إسرائيل فى لجنة الأمم المتحدة للاستخدامات السلمية للفضاء الخارجى مخجلا.
هناك مشكلة مستعصية فى التقدير السياسى لمواطن القوة الناعمة المصرية.
لا نطلب معجزات، كل ما هو مطلوب ألا نرتكب أخطاء سياسية كارثية.
ولا يصح أبدا تبديد إرث البابا «شنودة».
هذا تحد أمام البابا «تواضروس» يستطيع الحسم فيه بوزنه الدينى الرفيع مستلهما الروح التى تملكته فى شبابه الباكر عندما كان يستمع مع صديقنا المشترك الراحل الدكتور «محمد حامد عباس» إلى فيروز تغنى للقدس الجريحة أملا فى نصرتها بقوة الضمير.