أحدث الأخبار
كتبت: داليا سعيد مصطفى/ أستاذ مساعد في الأدب العربي والمقارن بجامعة مانشستر بانجلترا
منذ أول أعمالهما المشتركة فيلم واحد-صفر (2009)، شكّل الثنائي مريم نعوم الكاتبة وكاملة أبو ذكري المخرجة ظاهرة فنية هامة وإيجابية. فمن الملفت للنظر والدهشة في تاريخ السينما والدراما التليفزيونية المصرية على حد سواء هو ندرة المخرجات وكاتبات السيناريو على الرغم من عِظَم صناعة السينما ودراما التليفزيون في مصر.
فصناعة السينما المصرية هي الأكبر ليس في الوطن العربي فحسب وإنما أيضاً في محيط الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. فعدد الأفلام التي تم إنتاجها منذ بدايات السينما في مصر في أواخر العشرينات من القرن الماضي يفوق بكثيرعددها في بلاد مثل تركيا وإيران والمغرب. ويمكن قول نفس الملحوظة فيما يخص الدراما التليفزيونية.
ولكن على رغم هذا التاريخ الهائل وغزارة إنتاج الأفلام والمسلسلات، فإن عدد المخرجات وكاتبات السيناريو في مصر ما زال محدوداً للغاية. ومن المدهش أيضاً بالمقارنة مع إيران مثلاً وبكل ما يفرضه النظام الإسلامي هناك من قيود صارمة على صناعة السينما والفنون عموماً، فإن المخرجات الإيرانيات سواء في مجال السينما الروائية أو التسجيلية قد أسّسن تياراً سينمائياً غاية في الأهمية في أعقاب الثورة الإسلامية في عام 1979 كنوع من التحدّي والمقاومة للنظام الشمولي، كما عملن بِدَأب على تثبيت وترسيخ صوت المرأة ووجهة نظرها من خلال الفن.
وتعتبر هذه ظاهرة تاريخية في حد ذاتها، ولكن ليس هنا مجال الحديث عنها على أية حال. ولذلك أصبح ملفتاً للنظر في مصر على مدار العقد الماضي بداية ظهور جيل جديد من المخرجات في مجال السينما الروائية مثل هالة خليل وساندرا نشأت وكاملة أبو ذكري، ومؤخراً في السنوات القليلة الماضية مخرجات مثل ماجى مرجان وأيتن أمين ونادين خان. وامتد هذا التواجد إلى مجال الأفلام التسجيلية ليشمل أعداداً أكبر من المخرجات وخاصة في أعقاب ثورة 25 يناير.
وربما لاحظنا في السنتين الماضيتين على وجه الخصوص ظهور أسماء فنانات في دراما رمضان في مجال الإخراج وكتابة السيناريو والتصوير والديكور. وهذا تطور كبير في هذه الصناعة وبلا شك سوف ينمو في السنوات القادمة. وبالطبع يصحب هذا التطور تجديداً وتحديثاً في محتوى ومضمون الأعمال المقدّمة سواء في السينما أو التليفزيون. فكيف لمجتمع أن ينمو بدون تقوية وتدعيم وجهة نظر المرأة في الكتابة والإخراج في فنون أثْرَت وجداننا على مرّ الزمان؟
وهكذا فإن دخول الثنائي مريم نعوم-كاملة أبو ذكري وبقوة في مجال الدراما التليفزيونية هي خطوة هامة في هذا السياق، وخاصة بعد نجاح مسلسل "حكاية بنت اسمها ذات" في رمضان العام الماضي عن قصة الروائي صنع الله إبراهيم، والذي حقّق نسبة مشاهدة عالية جداً وأثار الكثير من النقاش بين المشاهدين وليس فقط بين الفنانين والنقّاد. وقد شارك في إخراجه مع كاملة أبو ذكري المخرج الكبير خيري بشارة. ولكن فيما ركّز "ذات" على الكثير من التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في مصر على مدار ستة عقود، وتأثير هذه التحولات على الطبقة الوسطى وتآكل هذه الطبقة نتيجة "العواصف" التي مرّت بها، ينسج مسلسل "سجن النساء" (وهو مستوحى من مسرحية الكاتبة الراحلة فتحية العسال) قصص شخصياته من عالم العنف والجريمة التي ترتكبها نساء، وخاصة نساء المدينة اللاتي يعشن في ظروف قاهرة من الفقر والعوز والمرض أو تلك اللاتي يتاجرن في المخدرات أوالدعارة.
ربما السؤال الذي يهمني هنا والذي أحاول أن أستشفه من هذا العمل هو: هل تحولت المدينة إلى سجن كبير تتعدد فيها الحواديت والعلاقات والطبقات الاجتماعية، ولكنها في النهاية ما هي إلا سور عالي وقاسي تتحدّد فيه حركتنا وتهزم الظروف الكثير منا وتودي بهم إلى ارتكاب العنف والخيانة؟ بالتأكيد إن العمل الدرامي يهدف إلى "تمثيل" الواقع ولا يمكنه "نقل" الواقع كما هو لأنه عمل فني في المقام الأول ولا يمكننا تناوله كما نناقش كتاب في التاريخ مثلاً أو كما نستمع إلى خطبة سياسية.
كما أن الدراما تتطلب تكثيفاً شديداً للمشاعر والرؤى لتنقل أحاسيس معينة في فترة زمنية محدودة، وإلا لما اعتُبِرت دراما. ولذلك فإن القائمات على مسلسل "سجن النساء" يتخذن من فكرة السجن مجازاً لإثارة العديد من القضايا عن علاقتنا بالقانون ورؤيتنا لأفكار أساسية مثل العدالة الاجتماعية وكرامة الإنسان وحريته ولقمة عيشه، ليس فقط في عالم النساء، ولكن في عالم الرجال والأطفال أيضاً.
أعتقد أن فكرة العدالة هنا وتفسير الشخصيات لها ربما تشكل محور هذا العمل. يمكن أن يكون الإنسان خارج أسوار السجن ولكنه يستمر في ارتكاب جرائم هائلة في حق الآخرين، مثل شخصية صابر في المسلسل. ويمكن أن تكون هناك امرأة تجد في أسوار السجن ملاذاً وحماية مثل شخصية زينات. يمكن أن يصبح الإنسان سجين عشقه للمادة وضميره الغائب، وهي فكرة يتناولها مسلسل آخر هام في دراما رمضان هذا العام وهو "السبع وصايا". فهنا نرى الشخصيات هاربة من السجن ولها حرية الانتقال من مكان لآخر، ولكن عبادتهم للمال تشدّهم إلى مستنقع موحل من العنف لا ينتهي إلا بفنائهم جميعاً.
نعلم أن صُنّاع مسلسل "سجن النساء" قد أنشئوا "سجناً" متكاملاً على مساحة 6500 متر في منطقة شبرامنت بعد عدة زيارات قاموا بها لسجن القناطر، كما تذكر مهندسة الديكور شيرين فرغل عند استضافتها في برنامج العاشرة مساء مع رشا نبيل. وتضيف أنها حاولت أن تنقل من خلال هذا الديكور صورة حية لسجن النسا بعنابره المختلفة حتى يستطيع المشاهد أن يتخيل "صورة" سجن القناطر من الداخل. فنحن هنا أمام صورة وتعبير ووجهة نظر عن السجن. ولأن السجن حاضر بقوة في مجتمعاتنا العربية، ولأن تيمة السجن كإطار مجازي يمكن أن تعكس ما يحدث في المجتمع بشكل عام، فقد تم استخدامها في الكثير من الأدبيات العربية (ومنها مثلاً رواية العربة الذهبية لا تصعد إلى السماء للكاتبة سلوى بكر، ورواية شرف لصنع الله إبراهيم) كأداة لإحالة واقع ما إلى مجاز.
فالسجن هنا سواء بحدوده المادية من حوائط وبوابات وأقفال وقضبان، أو الرمزية من مشاعر وأحاسيس وعلاقات يمثل صورة "مُتخيّلة" للواقع. وأعتقد أن مديرة التصوير نانسي عبد الفتاح والمخرجة كاملة أبو ذكري قد عبّرتا عن هذه الصورة في المسلسل بشكل جديد وبه عناية فائقة بالتفاصيل.
فمثلاً نرى الشخصيات في الكثير من المشاهد سواء داخل أو خارج السجن بين أربعة حوائط في بيوت بائسة ومعتمة أو في عنابر مزدحمة. ويكثف هذا الإحساس بالبؤس والشقاء المعنوي الكلوز أب القريب جدا ليركز على وجوه الممثلات والممثلين حتى نستشف من خلال نظرات العيون وتعبيرات الوجه ما يشعرون به. لعبت الإضاءة الخافتة، بل والقاتمة في الكثير من الأحيان، دوراً هاماً في تكثيف إحساسنا بهذا الشقاء النفسي.
فالشقق التي تصورها الكاميرا (فيما عدا بيوت الطبقات العليا) معتمة الضوء وكئيبة وربما تدفع بالمتفرج لكي يتوقع أن هناك جريمة ما ستُرتكب أو أن مصير الشخصية سوف ينقلب رأساً على عقب. كما تصور الكاميرا الشخصيات من خلف الأبواب المواربة ومن خلال الشبابيك التي تحدها القضبان. وهكذا ففي الكثير من المشاهد نحن نرى "جزءاً" من الشخصية كأنما هي دعوة للمتفرج أن يشارك بنظرته وتأمله في إضافة أبعاد أخرى لصورة الشخصية. ونسمع في نهاية التتر الصوت المميز لبوابة السجن وهي تغلق على من بالداخل.
في بعض حواراتها المنشورة تكرر مريم نعوم فكرة أن عملها يمكن اعتباره "مرآة" للمجتمع حيث "تظهر الصورة أحياناً حلوة وأحياناً سيئة وأحياناً منغمشة، أو مكسورة" (كما جاء في حوارها مع مصراوي بتاريخ 13 يوليو 2014).
نرى العديد من الشخصيات في المسلسل (وخاصة غالية ودلال ورضا) يتطلعن كثيراً إلى وجوههن في المرآة ونتابع نحن انعكاس إحساسهن عبر المرآة. يُبرز "موتيف" المرآة هنا تطور إحساس الشخصيات بأجسادهن وتبدل ملامحهن مع تغير مصائرهن ودخولهن عالم العنف والجريمة. وهذه الرؤية في التناول تؤكد أيضاً على تخيل المُشاهد لصورة وإحساس الشخصيات.
وفي رأيي أن "سجن النساء" قد برز من بين مسلسلات رمضان الأخرى لأنه يقدم رؤية "نسائية" ربما للمرة الأولى في دراما التليفزيون عن مفهوم العدالة وماهيّة السجن ومدى توغل هذه الفكرة في أعماق المجتمع وفي إحساسنا بالمدن التي نعيش فيها، وهي رؤية تتطلب المزيد من البحث والدراسة.