أحدث الأخبار
لا إخوان ولا سلفية.. مصر دولة مدنية.. لا إخوان ولا سلفية.. مصر هاتفضل مصراوية.
كانت هذه بعض الهتافات التي أطلقها الصحفيون كقوة وعي في مظاهراتهم والتقطها ميدان التحرير لتصبح شعارات أساسية ضمن أخري عبرت عن غضب المصريين واحتجاجهم علي عملية الخداع الشاملة التي قامت بها جماعات الإسلام السياسي، وكان هذا الخداع قد بدأ منذ انطلقت عملية التلاعب بالتواطؤ مع المجلس الأعلي للقوات المسلحة لقلب المسار الديمقراطي المنطقي الذي كان يقضي بكتابة الدستور المصري أولا ثم إجراء الانتخابات بعد ذلك لكنهم اختاروا تعديل تسع مواد في دستور 1971 الذي كان من المفترض أن يكون قد سقط بسقوط حكم «مبارك» وعصابته.
وفي الاستفتاء علي هذه المواد التسعة أطلقت قوي الإسلام السياسي صفارة الانقسام الطائفي في البلاد حين أخذت تحشد أنصارها بادعاء أنهم لو صوتوا بلا سوف يحكم المسيحيون مصر وأن من يصوت بنعم سوف يدخل الجنة ومن يصوت بلا مآله جهنم وبئس المصير، وهكذا أصبحت هذه النغمة النشاز في حياة المصريين تتردد ليل نهار لإقحام الدين في السياسة وإزاحة الشعار العبقري الذي ابتدعته ثورة مصر الوطنية الكبري في عام 1919 «الدين لله والوطن للجميع» وهو الشعار الذي استقر في وجدان المصريين عبر العقود وتمثلته ثورة 25 يناير 2011 التي شارك فيها النساء والرجال والمسيحيون والمسلمون كتفا بكتف وفيها اختلطت دماء الجرحي والمصابين دون إطلاق شعار ديني واحد، بل كانت الشعارات الوطنية التقدمية الجامعة هي.. عيش – حرية – عدالة اجتماعية – كرامة إنسانية، وظل هناك مشهد سوف تحتفظ به ذاكرة المصريين طويلا عنوانا لوحدتهم الوطنية واحترامهم للاختلاف ومحبثهم الفياضة لبعضهم البعض حين وقفت فتاة مسيحية تضع صليبا كبيرا وقد أمسكت بدورق ماء تصب منه لشيخ مسلم ماء الوضوء، وحين أقام المسيحيون قداسا في الميدان أحاط بهم مسلمون لحمايتهم خاشعين جميعهم لله، وتبث وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة شهادات بالآلاف عن صور التعايش والمودة الصافية بين المسلمين والمسيحيين.
والقول إن مصر بعبقرية شعبها وقوته الروحية هي التي علمت الإنسانية التوحيد ومصرت كل من المسيحية والإسلام وبثت فيهما من روحها وأشواقها.. ليس قولا إنشائيا وإنما هو حقيقة برهن التاريخ علي صحتها رغم كل الممارسات والوقائع العابرة التي شكلت نقاطا سوداء في تاريخ العلاقات بين المسلمين والمسيحيين والتي ثبت في كل مرة أن أيدي مشبوهة وسياسات عاجزة كانت تؤججها.
باختصار ظلت مصر مصراوية والذين يريدون الآن إعادة تشكيل هويتها هم واهمون، أو عابرون في كلام عابر علي حد تعبير محمود درويش.
ذلك أن المكونات بالغة الثراء والتنوع والعمق التي دخلت في تشكيل شخصية مصر وعبقريتها علي حد تعبير «جمال حمدان» ظلت وستبقي رغم كل الآلام التي تعانيها البلاد الآن – ظلت متفاعلة تفاعلا خلاقا يتجدد مع كل جديد في العلاقات الإنسانية وفي الثقافة والعلوم، في الرؤي والتطلعات بحيث يستحيل اختزالها في مكون واحد كما يسعي الإسلاميون الآن الذين قبل أن يختزلوا الوطن في أنفسهم قاموا بتقزيم الإسلام ذاته وتضييق آفاقه الرحبة ناسين كل ما أسهمت به الثقافة العربية الإسلامية العقلانية حين أنارت للبشر في الأندلس طريقهم لثمانية قرون، وكانت كتابات فيلسوف العقلانية الإسلامية بن رشد هي التي فتحت لأوروبا طريق نهضتها وخروجها من العصور الوسطي.
وكانت الفلسفة العقلانية الإسلامية في ذلك الحين قادرة وبوعي علي الامتصاص من الحضارات والثقافات الأخري في البلدان التي فتحها المسلمون أو تاجروا معها.. ثم بدأ انهيار الحضارة العربية الإسلامية حين تحولت بلدانها إلي طوائف وفرق متناحرة، وبرزت الرؤي الأحادية الضيقة والمتزمتة كعلامة علي الانحطاط.
والخاصية الأساسية لمشروع الدستور الباطل الذي يكافح المصريون الآن ضد إنجاز الاستفتاء عليه أنه يختزل الثقافة في الدين وحده، ويختزل الدين في الإسلام وحده، ويختزل الإسلام في الرؤية الضيقة والمتحيزة والتمييزية لجماعة الإخوان المسلمين وحلفائهم وبدلا من أن تكون هوية مصر المصراوية سيرورة متجددة وتبدو هذه الهوية طبقا لهم ولمشروع دستورهم كأنها بهذا الاختزال المستحيل قد وجدت في الماضي واكتملت هناك، وأصبحت جوهرا مصمتا صافيا يسعي الإسلام السياسي لعصرنته بعد أن يتفسخ الوطن ويتملكون هم كل مفاصل الدولة، ويساعدهم علي إنجاز هذا المخطط الشيطاني حقيقة أننا بلد أصبح مستهلكا لا منتجا للفكر مما يسهل استيراد الأفكار الوهابية التي تنتمي للماضي ويجري تهميش الإبداع الوطني، وينمو كل ما هو تحت وطني أي تنتعش الهويات الصغري علي حساب مصر المصراوية المتماسكة الموحدة وهو ما تفعله التوجهات السياسية الأساسية للطبقة الحاكمة الآن لكن مصر المصراوية الديمقراطية والعادلة تقاوم ولسوف تنتصر مهما طال الزمن ومهما كان حجم التضحيات، وسوف يسقط الدستور الباطل، إن عاجلا أو آجلا.