أحدث الأخبار
أنا خائف من هذا الوطن.. وليس عليه!
أنا خائف.
بلغ خوفى حد أننى صرت أشعر بالفزع من أن أقول: أنا خائف. أخاف حتى أن يسمعنى من أخاف منهم.
خرجت من القاهرة فى رحلة كان يفترض ألا تتجاوز ثلاثة أسابيع. مر على خروجى ما يقرب من أربعة أشهر. كلما جاء ميعاد الرجوع، بحثت عن سبب أو وسيلة لأتجنب العودة، لأننى خائف.
أحب المطارات. ترتبط فى ذهنى ببداية جديدة. بأرض مختلفة. بإطلالة على عالم مغاير، ولقاء مع أصدقاء حرمنى من أنسهم بعد المسافة. إلا مطارات مصر. صارت مثل أخطبوط أعمى، يصطادنا واحدا بعد الآخر. كلما هبطت فى مطار القاهرة تذكرت صديقى براء أشرف، وحكاية آخر رحلاته، وقصته مع الضابط الذى أخذ يسلى نفسه بقراءة الرسائل القصيرة على هاتفه المحمول. لم يسافر براء عبر مطار القاهرة مرة أخرى. عاش المطار، ونظام المطار، ورئيس المطار، ومات براء.
فى المطار منع الحقوقيان جمال عيد وحسام بهجت من السفر للمشاركة فى مؤتمرات، ومنع الشاعر عمر حاذق من المغادرة فى منحة للكتابة الإبداعية، وأوقف غيرهم كثيرون. ٥٤٤ حالة رصدتها مؤسسة «دفتر أحوال» فى خلال خمسة أعوام.
مطارات الوطن لا تمنعك من السفر فحسب ولكنها تمنعك أيضا من الدخول مثلما فعلت مع الأكاديمى عاطف بطرس، أو تسلمك «تسليم أهالى» كما فعلت مع الباحث إسماعيل الإسكندرانى، الذى احتضنه الوطن فى مطار الغردقة، واستكمل احتضانه فى سجن مجهول. ولايزال الحضن يجدد شهرا بعد شهر دون أن يعرف للرجل مكان.
لم أعد أخشى مطارات الوطن فحسب. أصبحت أخشى الوطن كله. مطاراته وشوارعه وميادينه، ورجاله ونساءه. خلاف عابر أو سوء تفاهم مع الشخص الخطأ فى كمين مرور، على محطة أتوبيس، أثناء ركن السيارة، فى حوار مع جارك كفيل بأن ينتهى بك خلف القضبان. ستجد ساعتها من يقول إنك كنت تحمل أقراصا مخدرة فى المقعد الخلفى، وميزانا تزن به بودرة الهيروين، بينما تصب لنفسك كأسا من الخمر، وأنت تستمع لتسجيل يسب السيدة عائشة، ويدعو للتشيع، أثناء إدارتك لموقع إباحى، يدعو إلى الإلحاد. لن يتوقف أحد أمام مثل هذا الخبر حتى لو قيل إنك فعلت هذا كله وأنت تقود سيارتك. كل شىء فى مصر صار جائزا ومعتادا. القتل العشوائى، والتعذيب العابر، والانتهاكات الفردية. لا يوجد ما يثير الدهشة أو العجب حتى لو كان قرار «عفو» عن رضيع اتهم بارتكاب أعمال إجرامية قبل أن يتجاوز عمره سنتين.
ــ نجاد.. أنا خايف
ــ يا عم خايف من إيه؟ لو كلنا خفنا وسبنا البلد، هتضيع مننا. ثم انت ما عملتش حاجة!
..«ما عملتش حاجة؟!».. ربما لهذا السبب أشعر بالخوف.. هو أيضا، نجاد «ما عملش حاجة». فقط شارك فى وضع قانون لمنع التعذيب فاستدعى للتحقيق فى جريمته، وأخلى سبيله أخيرا «بضمان محل الإقامة». تهمته هى «ممارسة نشاط حقوق الإنسان دون ترخيص، وتكدير الأمن العام، وإلحاق الضرر بالمصلحة العامة».
فى مصر فقط مناهضة التعذيب تهمة، وارتداء تى شيرت يطالب بمنعه جريمة. أما التعذيب نفسه فلا يقلق القائمين على منظومة العدالة. لا يقلق أحدا.
أنا خائف..
خائف لأننى لا أفهم لماذا سجن أحمد ناجى، وشوكان؟ وهشام جعفر؟ وآية حجازى؟ ومحمود محمد، وغيرهم كثيرون؟ شباب وشيوخ، ونساء، وأطفال..
أنا خائف.. خائف.. خائف
ألفت رؤية صور المعذبين والقتلى. لا أدرى إن كان هذا موت القلب أم مجرد الاعتياد. ولكن عيناى اغرورقتا بالدموع عندما رأيت صورة عادية لأم فى طريقها لزيارة ابنها فى السجن. على ظهرها وفى يديها، ما ينوء بحمله الرجال الشداد. مرهقة ومتعبة. عيناها فزعتان. هل ستراه؟ هل ضربوه؟ هل عذبوه؟ هل يا ترى مازال على قيد الحياة؟
منذ شهور داهمنى كابوس مرعب. كنت جالسا وهم واقفون. من هم؟ اسمح لى ألا أجيب. ألم أقل لك إننى خائف؟!
كانوا يصرخون فى وجهى: «سنعذبك لو لم تكف عن الكذب. سنعذبك لو قلت مرة آخرى بأن هناك تعذيبا».
ولكن مهلا! أنا خائف. لكن خوفى لا يعنى أننى سأسكت. سأصرخ مع من يصرخون رعبا وقهرا وألما. وطنكم الذى يقهر أبناءه ويعذبهم ويثير فيهم الذعر والخوف، ليس وطنى. «وطن الضرورة» لا يستحق أن يدعى وطنا.