أحدث الأخبار
"يقتلني صمته وخفوت مهاراته.. ليست هناك حياة عادية لكنها مليئة بالتحديات" كلمات بمذاق الألم تقولها أم لطفل مصاب.
هو المرض الذي يبني أسواره العالية في صمت وغموض دون أن يلاحظه أحد، فيحيط أطفالا براعم في عمر الزهور بسجون يَصعب الهروب منها مع مرور الوقت وعدم الاهتمام.
أنه التوحد "Autism" الذي يُعرِّفه المتخصصون بأنه اضطراب عصبي ونمائي يؤثر على التطور ويظهر منذ الطفولة الباكرة، وعادة ما يسبب خللا وظيفيا في التفاعل الاجتماعي المتبادل وفي التواصل مع الآخرين، ويؤدي إلى سلوكيات نمطية تكرارية محدودة.
ويعاني أهالي مرضى التوحد مشكلة ندرة المستشفيات والمراكز الحكومية للتأهيل والعلاج، إضافة إلى شح المعلومات المتاحة عن أعراض ومضاعفات المرض، وتدني مستوى الخدمات، وعدم وجود مناهج دراسية مخصصة لهم، ما يؤدي إلى صعوبة الاندماج في العملية التعليمية.
ويعتمد أهالي المرضى على المراكز الخاصة ودور الرعاية التي غالبا ما تغالي في أسعار العلاج وتقديم الخدمات، ما يجعل من القدرة المالية عاملا مؤثرا في مستوى الخدمات المُقدمة للمرضى.
وقالت الجمعية المصرية للأوتيزم إن عدد التوحديين في مصر –أطفالا وبالغين- يصل إلى مليون مريض تقريبا.
واختارت منظمة الأمم المتحدة منذ 8 سنوات يوم الثاني من أبريل من كل عام للتوعية بمرض التوحد، ليكون أول يوم عالمي يخصص لهذا المرض.
كما تخصص الأمم المتحدة هذا العام لإطلاق استراتيجية التعامل مع مرضى التوحد حتى عام 2030 كجزء من خطتها للتنمية المستدامة تحت عنوان "الإدماج وتنوع النظام العصبي".
أسوار وسجون
"عامان ونصف ولم يتكلم.. يلعب وحده وسط عشرات الأطفال.. لا يلبي النداء باسمه" تلك المؤشرات كانت ناقوس خطر دق أمام إنجي مشهور، أم لطفل مصاب بالتوحد في المرحلة الإعدادية وناشطة بالجمعية المصرية للأوتيزم.
"طفل سليم شكليا لا تظهر عليه تغيرات واضحة في الملامح، لكنه مصاب بالتوحد... الأمر يزداد صعوبة ويحتاج إلى وعي" تحكي إنجي أن أبنها ياسين "13 عاما" كان يعيش في عالمه الخاص حتى تقابلت مع داليا سليمان رئيسة الجمعية المصرية للأوتيزم في مناسبة اجتماعية فقامت بلفت نظرها إلى إصابة أبنها بالتوحد وبدأت رحلة التأهيل والعلاج.
تقول إنجي مشهور، في مقابلة مع "أصوات مصرية" إن رحلة العلاج كانت هي بداية الخروج من سجن العزلة المفروضة على أبنها، وبداية نقلة نوعية لها تحولت بسببها من أم عادية إلى ناشطة في مجال التوعية بمرض الأوتيزم.
وتوضح إنجي أن "التدخل المبكر" هو كلمة السر في علاج مريض التوحد، فتحسن حالة الطفل بصورة أكبر مرهونة على الاكتشاف المبكر للمرض والعلاج السريع.
معوقات وتحديات
وانتقدت والدة الطفل ياسين قرار وزارة التربية والتعليم بعودة امتحان الطلاب التوحديين في مواد اللغة العربية والدراسات والدين، مؤكدة أن الوزارة كانت أعفت التوحديين من دراسة تلك المواد، لكنها ألغت القرار خلال العام الدراسي الماضي.
وقالت إنجي مشهور إن الأطفال التوحديين لديهم مشاكل في التخاطب ويصعب عليهم دراسة تلك المواد، واصفة قرار الوزارة بأنه "سريع وغير منصف".
وعابت إنجي على برنامج دمج الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة في التعليم، مؤكدة أن إجراءات الدمج "صعبة للغاية وغير ملائمة"، خاصة وأن اختبارات الذكاء التي تجريها الوزارة على التوحديين هي اختبارات لفظية رغم أن لديهم مشكلة في التخاطب.
وأضافت أن "معظم القائمين على اختبارات الذكاء بإدارة الدمج في وزارة التربية والتعليم غير مؤهلين للتعامل مع الأطفال التوحديين".
وبرنامج الدمج لوزارة التربية والتعليم هو العملية التي يتم فيها تعليم الطلاب ذوي الاحتياجات الخاصة مع الطلاب العاديين في الفصول الدراسية وفي جميع الأنشطة التعليمية والثقافية والتربوية والرياضية والترفيهية وغيرها.
العزلة التعليمية
وقالت إنجي محمود، أخصائية تنمية قدرات ومهارات الأطفال التوحديين بإحدى المدارس الخاصة، إن برنامج الدمج لوزارة التربية والتعليم يخلو من مناهج دراسية متخصصة للأطفال ذوى الاحتياجات الخاصة.
وأضافت إنجي، في تصريح لأصوات مصرية، أن عدم وجود مناهج دراسية متخصصة للتوحديين تؤثر سلبا على مهارات التعلم لدى الأطفال المرضى، وتؤدي إلى تأخرهم دراسيا.
وأوضحت إنجي "كثير من حالات التوحد مؤهلة للاندماج في العملية التعليمية، لكن عدم وجود المناهج الدراسية وعدم تأهيل المعلمين يؤدي في الغالب إلى نتائج مؤسفة".
وأشارت إلى أن نظام التعليم في المدارس –الحكومية والخاصة- يساهم في عزل الأطفال التوحديين ويشعرهم بالاغتراب، مؤكدة أن معظم المدارس غير مؤهلة لاستقبال الأطفال ذوى الاحتياجات الخاصة.
ودعت إنجي محمود إلى ضرورة السماح بوجود ما يسمى بـ Shadow Teacher"" داخل المدارس بجانب المدرسين الآخرين لمساعدة الأطفال التوحديين على الاندماج في العملية التعليمية وتبسيط المعلومات وغيرها من المهارات.
و"Shadow Teacher"هو مدرس ظِل، أو مساعد يرافق الطفل ذو الاحتياج الخاص داخل الفصل المدرسي لمساعدته على الاندماج من خلال تبسيط المعلومات الدراسية وممارسة الأنشطة المختلفة ويعمل كحلقة وصل بين المدرسة وأسرة الطفل.
وقالت إنجي إن برنامج الدمج بوزارة التربية والتعليم وحده غير كاف بالنسبة للأطفال التوحديين، مؤكدة أن التأثير الأكبر يكون من خلال برامج التأهيل والاجتماعيات التي من المفترض أن يتلقاها الطفل التوحدي على يد متخصصين خارج المدرسة.
الخروج من الدائرة
وأوضحت سارة موسى، أخصائية التوحد بالجمعية المصرية للأوتيزم، أن استجابة الأطفال التوحديين للعلاج تختلف وفقا لدرجة الإصابة بالمرض، مؤكدة أن نتائج برامج التأهيل غالبا ما تؤتي بثمارها خلال 6 أشهر أو أكثر.
وأضافت سارة أن الأطفال التوحديين "يعيشون في دائرة مغلقة عليهم، وقياس مستوى الاستجابة للعلاج يتحدد وفقا لمعدلات النجاح في كسر هذه الدائرة والخروج بهم إلى عوالم أخرى".
وقالت سارة موسى، في مقابلة مع أصوات مصرية، إن أكبر التحديات التي تواجه التوحديين هي نظام التعليم في المدارس ونظرة المجتمع للأطفال المرضى.
وأشارت إلى أن التشريعات المنظمة للعملية التعليمية في مصر تنص على إدماج الأطفال ذوى الاحتياجات الخاصة في التعليم، لكن معظم المدارس لا تقبل الأطفال المصابين باضطرابات نمائية وعصبية بالمخالفة للوائح والقوانين.
وتابعت سارة أن "المدارس التي تقبل الأطفال التوحديين غالبا ما تغالي في المصروفات، إلى جانب أن المدرسين عادة ما يكونوا غير مؤهلين للتعامل مع الأطفال المرضى بسبب خلو المناهج التربوية في الجامعات من آليات التعامل مع أصحاب الاحتياجات الخاصة".
وعن التوحديين البالغين قالت سارة إن التأقلم والتعايش وممارسة الأنشطة اليومية العادية قد يحدث في حال التدخل العلاجي في مرحلة مبكرة، مؤكدة أن تأخير العلاج قد يجعل أقصى طموح هو إكساب المريض المهارات الأساسية فقط.
وأكدت أخصائية التوحد أن الجمعية المصرية للأوتيزم تركز على تقديم الإرشاد الأسري لأهالي المرضى، وتنمية مهارات الأطفال الاجتماعية والتخاطبية والسلوكية، إلى جانب التأهيل الأكاديمي استعدادا للدمج في العملية التعليمية بالمدارس.
والجمعية المصرية للأوتيزم "التوحد" –تأسست عام 1999- هي إحدى أوائل المنظمات التي تقدم خدمات عديدة إلى الأطفال المصابين بالمرض وذويهم في مصر.
آمال وأرقام
وكان الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون دعا هذا العام إلى النهوض بحقوق التوحديين، مطالبا بـ"ضمان مشاركتهم وإدماجهم بشكل كامل باعتبارهم أعضاء مقدرين في أسرتنا البشرية المتنوعة يستطيعون الإسهام في مستقبل يتيح العيش بكرامة والفرص للجميع".
ويصيب مرض التوحد الأطفال الذكور 3- 4 مرات أكثر من الإناث، ويظهر قبل سن ثلاث سنوات من العمر، ويعاني المصاب بالتوحد من صعوبة في التواصل الكلامي وغير الكلامي وفي التفاعل الاجتماعي وفي اللعب واللهو والنشاط، بحسب جمعية التوحديين الأمريكية.
وطالبت رنوة يحيى، والدة طفل مصاب بالتوحد عمره "8 سنوات"، بضرورة الاهتمام بالإنصات إلى آراء التوحديين أنفسهم وعدم الاعتماد على ذويهم فحسب.
وقالت على صفحتها الشخصية على موقع فيس بوك إنه "طالما نبتدي الآن جديا في العمل على التوعية بالتوحد، يجب علينا الاستفادة من أصوات التوحديين التي برزت في السنوات الأخيرة من خلال مدوناتهم، ونطلق برامج توعية بناء على أصواتهم".