أحدث الأخبار
جيل جديد من المدن الجديدة.. حقيقة أم كلام؟
أثناء قراءتي لبرنامج الحكومة المقدم للاعتماد من برلمان الشعب، استوقفتني بعض المخططات الكروكية الممثلة للمدن الجديدة الجاري إنشاؤها كجزء من الركيزة الرابعة للبرنامج والمعنية بالمشروعات القومية الكبرى.
المشروع القومى الثانى هو إنشاء جيل جديد من المدن الجديدة. وحيث إن الرسومات والمعلومات المقدمة فى البرنامج مقتضبة جدا وتفتقر إلى تفاصيل توضح الرؤى التخطيطية خلف كل مدينة، أو كيف تم تحديد الأولويات التنموية والاستثمارية لها، فلم يتضمن البرنامج إلا بعض الأرقام العامة عن الحجم وبعض المكونات العامة وعدد الوحدات السكنية المزمع إنشاؤها إلى جانب بعض المشاريع الخدمية والترفيهية بدون الإشارة إلى أحجامها أو استثماراتها، فلن نستطيع مناقشة هذه المقترحات بدرجة كافية من العمق. السؤال الهام فى هذا الخصوص هو لماذا تقدم الحكومة برنامجا يفتقر للتفاصيل لمجلس الشعب للاعتماد بما سيترتب على ذلك من اعتماد وتخصيص المليارات من الميزانية والقروض، ومن الالتزامات لأجيال لاحقة؟
***
يبدو أن حكومة عام ٢٠١٦ مثلها مثل حكومات ما قبل عام ٢٠١١ مازالت تتعامل مع الشعب وممثليه على أنه يفتقر للوعى الذى يؤهله للتعامل مع المعلومات الكاملة لأى مشروع أو سياسة تقرر انتهاجها، ولذلك فلا داعى لمشاركته فى التفاصيل ويكفى ثقته فى رئيسه وفى إعلاءه لمصلحة الشعب!
هل معقول أن تكون هذه الثقافة التى نتج عنها ثورتان مازالت هى الغالبة على المنظومة السياسية المصرية، أم أن هناك سببا آخر؟ فمثلا هل يمكن أن يكون السبب الحقيقى يكمن فى أن مستوى المعلومات المتوفرة لدى الحكومة وقت الإفصاح عن المشاريع والبدء فى التنفيذ هى أصلا محدودة لعدم توفير الوقت والإمكانيات لإنهاء دراسات متعمقة للمشاريع مجاراة للضغط السياسى الذى يبدى دائما التنفيذ السريع؟... ممكن... وهذا ما قد يفسر ما نواجهه من فشل لكثير من مشاريعنا نكتشف أنه نتيجة ضعف دراسات الجدوى والتخطيط المسبق.
المهم دعونا نرجع لمخططات المدن الجديدة التى بدأنا بها حديثنا. السؤال الذى استثارته عندى هذه المخططات نبع من علاقتها بمسمى المشروع والمعنى بإنشاء «جيل جديد» من المدن الجديدة، بافتراض أن هناك أجيالا قديمة والتى إذا ما نظرنا لتاريخنا الحضرى المعاصر يمكن أن نصنفها كالآتى: فهناك جيل أوائل القرن العشرين مثل مصر الجديدة، ثم جيل ثورة ٥٢ مثل مدينة نصر، تلاه جيل مدن الانفتاح مثل ٦ أكتوبر و١٠ رمضان، ثم هناك جيل مدن الانفتاح الأكبر «أو الهروب» مثل القاهرة الجديدة. وبسبب بزوغ كل واحدة من هذه التوسعات العمرانية بعد وأثناء مرحلة محورية سياسيا واقتصاديا فى تاريخ الوطن فأغلبهم حمل فى طياته تعبيرا تخطيطيا ومعماريا عن رؤى تتناسق مع فكر وأولويات هذه المرحلة. فهل «الجيل الجديد» المشار إليه فى برنامج حكومة عام ٢٠١٦ يمثل رؤية تخطيطة وتنموية جديدة تتفادى أخطاء الماضى وتساعد على تصحيح مسار التنمية العمرانية فى مصر؟ البرنامج للأسف لم يتطرق لهذه الأبعاد فهو اكتفى بإخطار ممثلى الشعب بأن القرار قد اتخذ وجارٍ التنفيذ... ولهم الرأى الأخير طبعا.
ولكن دعونا نأخذ مثالين للاستدلال عن ما إذا كانت هناك مؤشرات لوجود مثل هذه الرؤية الجديدة. أولى هذه المدن هى «العاصمة الإدارية الجديدة» والتى أدرج مخططها باسم «العاصمة القاهرة» «ولا أدرى إذا ما كان المعنى مقصود حرفيا!» والمدينة الأخرى هى مدينة «العلمين الجديدة». وحيث إن مقياس الرسم صغير فيصعب استيضاح تفاصيل التصميم، ولكن ما يوجد يكفى لقراءة التوجه التخطيطى العام لكل مدينة. المُلفت للنظر فى أول وهلة هو التباين القوى للتوجه التخطيطى للمدينتين. فالعاصمة الإدارية لها تخطيط مشابه جدا للمنتجعات السكنية الراقية التى تصمم حول ملاعب جولف وحدائق وبحيرات، فجميع شوارع المدينة متمايلة لا توجد بها أية زوايا قائمة، كأنها شوارع وممرات مشاة فى حديقة كبيرة لا يوجد بها تسلسل هرمى واضح لأولويات الحركة أو العناصر. ويمكن أن يكون هذا التوجه مقصود لكسر صورة الحكومة البيروقراطية بكل مخرجاتها الرتيبة والمتكررة وليدة فكر الستينيات الاشتراكى.
أما تخطيط مدينة العلمين الجديدة فى الصفحة التالية من البرنامج فنجده متناقضا تماما مع مدينة القاهرة فى غياب أى شارع متمايل فكل شوارعها متعامدة لتخلق تخطيط شبكى مشابه لأغلب المدن «الجديدة» المصرية مثل دمياط الجديدة وبنى سويف الجديدة... إلخ. وهو الفكر الصناعى الرامى لسلاسة التخطيط والحركة المعبر عن الفكر الصناعى لإنتاج المسلسل. ولكنها ليست بالمدينة الصناعية ومفروض أن تكون مدينة سياحية!
ماذا يربط بين هذين التخطيطين بما إنهما ينتميان إلى جيل واحد جديد من المدن الجديدة؟ ما هى الرؤية التخطيطية الجديدة التى يشتركان فى تفعيلها لإعادة صياغة المحيط العمرانى الذى نقطنه ونعانى من مشاكله المتراكمة من سوء وانعدام التخطيط؟ هل هناك رؤية أم إنهما فقط مثالين لأسلوبين من التخريط... أقصد التخطيط... للأراضى بهدف التسويق العقارى والبناء؟ نريد أن نفهم... بل من حقنا أن نفهم.
***
مما لاشك فيه أن التخطيط والتصميم العمرانى يعتبر تجسيدا ماديا للفكر والرؤى السائدة فى العصر، أو بالأحرى وفى حالة المشاريع الكبيرة مثل المدن هى تجسيد لفكر ورؤى صاحب السلطة والقرار. ولهذا فهذه المحاولة لقراءة هذه المشاريع وما تمثله من رؤى هامة جدا لأنها قرارات تغير من الواقع الذى نعيشه والذى ستعيشه أجيال كثيرة من بعدنا. والأهمية تزداد حينما يتعلق الموضوع بقرار إنشاء عاصمة جديدة لواحدة من أقدم وأعرق عواصم العالم وهى القاهرة لما لها من دلالات رمزية لا يمكن إغفالها. مع هذا القرار الجرىء لا يمكن للمخطط الهروب من الإجابة على عدة أسئلة هامة ومحورية بخلاف الجوانب المادية والوظيفية مثل:
• ما هى الإضافة التى يمثلها المكان الجديد لجودة الحياة فى المدينة الأكبر؟
• كيف يرتبط المكان الجديد بالقديم وكيف تتواصل ذاكرة المكان؟
• كيف يتعامل المكان الجديد مع هوية المكان؟
• كيف سيؤثر التدخل الجديد على مسار التطور والتغيير فى المدينة الأكبر؟
هذا إلى جانب أسئلة أخرى كثيرة هامة لتحديد الرؤية التخطيطية والمستقبلية لمثل هذه المشاريع الفاصلة فى التأثير على مسار التطور العمرانى للوطن. التاريخ المعاصر والقديم يقدمان لنا أمثلة عديدة لمشاريع مدن وعواصم جديدة مدفوعة بأهداف متنوعة لأصحاب تلك القرارات من رمزية سياسية إلى تعظيم وتخليد لزعيم. فمن الضرورى، بل من الواجب كجزء من العملية التخطيطية نفسها فتح حوار شامل لهذه المشاريع المقترحة على خلفية مثيلاتها فى الماضى وفى إطار تصور الشعب لمستقبله وللحياة التى ينشدها. وهذا للأسف ما لم يحدث.
فما هى إذا الأهداف الاستراتيجية والرؤية العمرانية لمدينة العاصمة الإدارية كما تخيلتها السلطات خاصة أنها تتناقض مع «استراتيجية التنمية العمرانية للقاهرة الكبرى» والتى أصدرتها وزارة الإسكان مع الهيئة العامة للتخطيط العمرانى عام ٢٠١٢. ما هى الرؤية الدافعة للمشروع لأنها بالتأكيد أكبر وأوسع من «نقل عدد من الوزارات ومجلس الوزراء ومجلس النواب من مدينة القاهرة... بالإضافة إلى إنشاء قاعة للمؤتمرات ومدينة أوليمبية بما يساهم فى تخفيف الزحام داخل القاهرة».
هذه المدن بما تمثله من قرارات تساهم فى تشكيل الواقع الذى سيعيشه ويدفع ثمنه أولادنا وأحفادنا لأجيال عديدة قادمة، وهذا أمر خطير ويهم كل مواطن مهما اختلفت خلفيته الاقتصادية أو الاجتماعية.
نريد أن نفهم تفاصيل هذه القرارات، بل من حقنا أن نفهم!