أحدث الأخبار
ناقوس الخطر فى قرية الكرم
لا أعرف كيف أصف أحداث قرية الكرم بمركز أبوقرقاص بمحافظة المنيا. طبعا من السهل القول إنها ناقوس خطر، ولكن هذا الوصف تكرر من قبل إزاء أحداث مشابهة بدءا من مصادمات الزاوية الحمراء فى سنة 1972 ومرورا بأحداث إمبابة فى سنة 2011 بعد تردد شائعات عن احتجاز مسيحية اعتنقت الإسلام بكنيسة هناك وقتل فى هذا الحادث ثلاثة عشر شخصا ــ مسيحيين ومسلمين، وانتهاء بما جرى فى قرية الجلاء بمركز سمالوط أيضا بمحافظة المنيا فى أبريل 2015 بعد قيام شبان مسلمين برشق سيارة تقل عددا من الطالبات المسيحيات، وجرح فيها تسعة أشخاص.
ومع أن ناقوس الخطر قد تم دقه فى كل هذه المناسبات، إلا أن حادث قرية الكرم الأخير أثبت أن أحدا لم يستمع لدقات الناقوس، ولم تخرج أى رؤية من الدولة كيف تستجيب لهذه الأخطار، ومن ثم فقد أصبح تقاعس الدولة عن الرد المناسب على جملة هذه الأحداث أحد أسباب المشكلة.
والدليل على ذلك هو كيفية تعامل أجهزتها المحلية بما فيها جهاز الشرطة مع الإشارات الأولى للحريق التى كانت قد اشتعلت بالفعل فى قرية الكرم.
محافظ المنيا اللواء طارق نصر رد على مراسل المصرى اليوم عندما سأله لماذا قلل من حجم أحداث الكرم وذكر أن المشكلة بسيطة بقوله «لأن المشكلة فعلا بسيطة، ولكن وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعى هى التى ضخمت الحادث بشكل كبير حتى أصبح محط اهتمام الجميع فضلا عن بيان مطرانية المنيا»، والسيدة سعاد ثابت إحدى ضحيتى الاعتداء الوحشى الغاشم ذكرت أنها ذهبت إلى مركز الشرطة طالبة الحماية بعد انتشار أقاويل فى القرية بأن أهل زوج السيدة المسلمة سيهاجمون المنزل بعد صلاة الجمعة، ولكن قوات الشرطة لم تتخذ أى إجراءات لحمايتها وأسرتها، بل حتى بعد أن جرى ما جرى من تهجم وحشى من 300 شخص عليها وعلى زوجة ابنها، ذهبت لتحرير محضر رفض الضباط تحرير محضر لساعات رغم أن آثار الضرب كانت واضحة على جسدها.
لا نستغرب إذا أن الدولة لم تستمع لناقوس الخطر من قبل، وأشك أنها قد استخلصت أخيرا الدرس مما حدث، ولكن هذا لا يعفينا من السعى لمعرفة الأسباب الحقيقة له، لعل وعسى.
***المسألة طبعا لا تخص محافظة المنيا وحدها، ولا تخص العلاقة بين المسلمين والمسيحيين وحدهم، ولكنها تتعلق بأن الدولة والمجتمع فى مصر لا يستوعبان بعد مفهوم المواطنة فى الدولة، والتى توصف فى وثيقة الأزهر وعلى لسان الرئيس بأنها دولة حديثة مدنية وديمقراطية.
مفهوم المواطنة يعنى أن الجميع سواء أمام القانون، واحترام هذه المساواة لا يقف عند الدولة وحدها ولكنه يجب أن يستقر أيضا فى وجدان المواطنين. رفض إقرار هذا المبدأ من جانب الدولة علاماته كثيرة، وعلاماته أكثر من جانب المجتمع. عدنا فى التشكيل الوزارى الأخير إلى ذلك التقليد الموروث للأسف من أيام عبدالناصر وهو قصر تولى المسيحيين على وزارات بعينها أقرب إلى وزارات الدولة التى لا تتبعها إدارات كبيرة، أى التى تقتصر سلطة الوزير فيها على أفراد مكتبه، وذلك بعد أن كان حسنى مبارك قد تجاوز ذلك بتعيين يوسف بطرس غالى وزيرا للمالية وهى من أهم الوزارات فى مصر، كما تولى منير فخرى عبدالنور وزارة الصناعة فى حكومة إبراهيم محلب، ولكن رحيل هانى قدرى من وزارة المالية فى التعديل الوزارى الأخير اقترن أيضا بتقليص عدد المسيحيين فى الوزارة إلى وزيرة واحدة فقط هى وزيرة الهجرة وشئون المصريين بالخارج.
وفى السنة التى أعقبت ثورة 2011 لم يتمكن المجلس الأعلى للقوات المسلحة من الإصرار على الإبقاء على محافظ مسيحى لقنا أمام بعض الاحتجاجات من بعض مواطنيها، رغم أن حسنى مبارك كان قد اتخذ هذه الخطوة بنجاح. ولعلنا نتساءل ماهو عدد رؤساء الجامعات الحكومية من الأقباط، بل ما هو عددهم بين عمداء كلياتها؟ وبالمناسبة رئيس الدولة وفقا لتعديل قانون الجامعات الأخير هو الذى يقوم بتعيين أصحاب هذه المناصب، بل لقد قيل لى إن الأمر يمتد حتى إلى نظار المدارس الابتدائية والثانوية بجميع أنواعها.
ربما تكون هناك استثناءات محدودة هنا أو هناك، ولكن هل هذا الوضع مجرد مصادفة؟ فلتكن هناك تفسيرات وذرائع، ولكن ألا يكشف ذلك عن كارثة فى تعامل الدولة مع الآخر. والواقع أن هذه للأسف الشديد سمة للدولة المصرية منذ ثورة يوليو 1952، وأقول للأسف لأنى من الذين يقدرون لهذه الثورة وزعيمها ما أحدثته من تطورات إيجابية فى سياسات مصر الداخلية والخارجية وفى أوضاع المجتمع المصرى، ولكن مما له دلالاته فى هذا السياق أنه على حين كانت كبرى العائلات المسيحية لها من يمثلونها فى قيادات حزب الوفد وفى وزاراته، خلت حركة الضباط الأحرار التى قادت ثورة يوليو ونظامها من ضابط مسيحى واحد.
والمسألة أوسع من مجرد العلاقة بين المسلمين السنة والأقباط. هل يعامل البهائيون معاملة المواطنين؟ هل يسمح لهم باستخراج شهادات ميلاد أو وفاة أو بطاقات هوية أو جوازات سفر يسجلون فيها أنهم بهائيون؟ ألا نذكر ذلك المشهد الكئيب من إجبار المسلمين من سكان قريتين فى الصعيد جيرانهم البهائيين على مغادرة القريتين اللتين أقاما فيها منذ عشرات السنين؟ بل وكيف تعامل الدولة والمجتمع المصريين المسلمين الشيعة؟ أن تكون شيعيا فهذا يعنى فى نظر الدولة أن تكون عميلا لإيران، ومن ثم قُـدم شيعيون للمحاكمة منذ سنوات بدعوى تشكيلهم تنظيما سريا على اتصال بدولة أجنبية، وطبعا لم تجد المحكمة ما يدينهم. بل ولا يسمح الأزهر للشيعة بأن يحتفلوا بأعيادهم فى ميدان الحسين، ولا أعرف ما هو الضرر فى ذلك.
بل إن الأحزاب السلفية فى مصر والتى لا تعترض على مجيء عشرات الألوف من السياح الإسرائيليين، وكثيرون منهم يهود، تظاهرت واحتجت على نية السماح للإيرانيين المسلمين بالدخول إلى مصر لزيارة معالمها السياحية. ولعلنا نذكر ذلك المشهد البشع منذ سنوات بسحل شخصية شيعية بارزة وسط تهليل وتكبير من جانب الآلاف الذين شاركوا فى هذه المذبحة.
***نعم، نحن لدينا كدولة وكمجتمع مشكلة فى قبول الآخر، أى كل من يختلف عما تراه الأغلبية الكبرى من المصريين الذكور السنة، لأن للمشكلة أيضا بُعد نوعى وفكرى. غالبية المصريين لا تقبل المساواة بين المرأة والرجل كما توضح استقصاءات رأى كثيرة، وكل من كانت له رؤية مخالفة للخطاب الدينى السائد كابد الأمرين مرورا بالمرحوم الدكتور نصر حامد أبوزيد فى التسعينيات إلى إسلام البحيرى وفاطمة ناعوت فى الوقت الحاضر، بل ونال كل من المرحوم الشيخ محمد الغزالى والدكتور حسن حنفى اتهامات تطعن فى إسلام كل منهما لمجرد أن بعض ما قاله كل منهما لم يرق لمن يتصورون أنهم يحتكرون الحقيقة فى كل الأمور.
ولكن ما هو المخرج؟ ليس هناك مخرج سهل لأن شيوع مثل هذه الممارسات هو أحد أعراض مجتمع مأزوم، فكريا وسياسيا واجتماعيا واقتصاديا.
وطريق العلاج طويل ومعروف، ولكنه يقتضى أن يكون هناك على قمة الدولة من يقبل الآخر المختلف، ومن يعتبر التنوع فى المجتمع والكون مصدرا لإثراء الوجود الإنسانى، ولا يضيق بحريات الرأى والتعبير والاعتقاد والتنظيم، وهو يستلزم مؤسسة دينية تقبل الآخر وتتحاور معه، ولا تخفى نظرتها الدونية للآخر وراء عناق المناسبات العامة، كما يقتضى السير على هذا الطريق سعيا جادا ورشيدا لمحاربة الفقر والبطالة والفساد.
هذه هى الشروط الضرورية لمحاربة ضيق الأفق واستغلال الدين لتحقيق مكاسب ذاتية أو سياسية. لو توافرت هذه الشروط فلن نكون بحاجة لدق ناقوس الخطر من جديد.