أحدث الأخبار
تشكيل المجلس الأعلى للاستثمار.. هل من جديد؟
رحبت وسائل الإعلام الرسمية بقرار السيد رئيس الجمهورية بتشكيل المجلس الأعلى للاستثمار واعتبرته علامة على بدء مرحلة جديدة من اهتمام الدولة بالاستثمار والمستثمرين، وفاتحة عمل للوزيرة الجديدة. فما الجديد في ذلك؟ وهل من دلالات مهمة وراء تشكيل هذا المجلس؟ المفهوم مما نشر خلال الأيام القليلة الماضية أن المجلس الأعلى للاستثمار سوف يكون برئاسة السيد رئيس الجمهورية وعضوية عدد من الوزراء ورؤساء الهيئات العامة وممثلين للقطاع الخاص.
ودلالة ما تقدم أن هذا المجلس الجديد سوف يمكنه التعامل مع مشاكل المستثمرين والاستثمار بشكل أكثر كفاءة وسرعة وتجاوز المعوقات والعراقيل التى تضعها البيروقراطية والأجهزة الحكومية نظرا لأن رئاسته تقع فى يد أعلى سلطة تنفيذية في البلد وهى سلطة قادرة على دفع الوزراء والمسئولين للعمل بهمة وحماس. ومن هذا المنطلق فقد رحب الكثيرون بتشكيل المجلس باعتباره الحل السريع والناجز للتدهور الحاد فى مناخ الاستثمار والذى لم ينجح القانون الصادر إبان مؤتمر شرم الشيخ الاقتصادى فى مارس 2015 فى إنقاذه بل ساهم فى تفاقمه وتراجع سمعته في العالم.
ولكن من جهة أخرى فإن تشكيل المجلس الأعلى للاستثمار على هذا النحو، وإن كان فى الأرجح سوف يحقق بعض المكاسب السريعة ويحل عددا من المشكلات المحلة، خاصة فى وجود السيد رئيس الجمهورية على قمته، إلا أنه يعبر عن حالة سائدة فى البلد ليس فقط فى مجال الاستثمار وإنما فى مختلف مجالات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وهى اليأس من جدوى إصلاح أجهزة الدولة المدنية ومؤسساتها العادية واللجوء إما إلى مؤسسة الرئاسة وشخص رئيس الجمهورية، وإما إلى القوات المسلحة وأجهزتها الهندسية، لحل جميع المشكلات الملحة وتنفيذ كل المشروعات الكبرى، نظرا لما رسخ فى مؤسسات الدولة المدنية وأجهزتها البيروقراطية من ركود وتكاسل وروتين خانق وأحيانا فساد على جميع المستويات.
والمشكلة هنا أن اللجوء لهذه الحلول التى تأتى بثمار سريعة ونتائج ملموسة، وإن كان مفهوما وربما ضروريا فى لحظات الأزمة وبشكل مؤقت، إلا أن تحوله إلى نمط عام لإدارة الدولة لا يساعد على بناء المؤسسات المدنية وعلى تجديد حيوية الجهاز البيروقراطى وتطويره، بل تدفعه إلى المزيد من العزلة والتهميش والعرقلة لكل نشاط مفيد فى البلد، خاصة أن الغالبية العظمى من المواطنين تجد نفسها فى النهاية مضطرة للاستمرار فى التعامل مع هذه الأجهزة التقليدية بعيدا عن اللجان العليا والمجلس رفيعة المستوى التى يتوجه اهتمامها إلى كبار المستثمرين والشركات.
ولنأخذ حالة المجلس الأعلى للاستثمار مثلا على ما تقدم. فقانون الاستثمار ينص على أن هناك مجلس إدارة لهيئة الاستثمار والمناطق الحرة برئاسة وزير الاستثمار (مادة 88)، وأن هناك مركزا قوميا لتنمية وترويج الاستثمار (مادة 96)، ولجنة تظلمات من قرارات هيئة الاستثمار (مادة 101)، ولجنة وزارية لفض منازعات الاستثمار (مادة 104)، ولجنة وزارية أخرى لتسوية منازعات عقود الاستثمار (مادة 108)، وهذا كله بجانب وجود المحاكم المختصة بالمنازعات الاقتصادية، ودوائر استثمار أخرى فى القضاء الإدارى.
الدلالة إذن لتشكيل المجلس الأعلى للاستثمار ووضعه تحت رئاسة السيد رئيس الجمهورية أن كل هذه الأجهزة واللجان والهيئات غير قادرة على التعامل مع مشاكل الاستثمار بمفردها وبموجب القوانين والقرارات المنظمة لها، وأن الحل الوحيد لتجاوز الوضع الراهن الذى صار طاردا للاستثمار هو تشكيل هذ المجلس الجديد ومنحه صلاحيات جديدة تتجاوز ما هو موجود بالفعل وتدعيمه بسلطة وصلاحيات وثقل السيد رئيس الجمهورية.
من جهة أخرى فإن تشكيل المجلس الأعلى الجديد ربما يساهم فى حل مشاكل بعض الشركات الكبرى والملفات العالقة، وهذا جيد ومطلوب. ولكن الأهم من ذلك هو تحديد الجهة المختصة بوضع تصور وسياسة للاستثمار وتحديد التوجه الاقتصادى للدولة بشكل عام لأن هذا هو مصدر تفاقم الوضع الحالى المضطرب.
ما نحتاجه اليوم ليس مجرد حل بعض المشكلات الملحة، بل تحديد المسار: ما طبيعة دور الدولة فى التنمية الاقتصادية، وما هو الدور المرتقب والمتوقع من القطاع الخاص، وهل تتدخل الدولة فى النشاط الاقتصادى لملء الفراغ الذى لا يقدر القطاع الخاص على شغله أم للمنافسة فى كل المجالات، وما دور البرلمان فى مراقبة كل ذلك، وهل هناك جهة مختصة بتنمية المشروعات الصغيرة والمتوسطة، وما هى سياسة الدولة فى تشجيع الصادرات، وما مستقبل السياسة الضريبية، وسعر الصرف، وإدارة الدين العام. هذه أسئلة باتت ملحة والانتظار عليها يعنى الاستمرار فى التعامل مع مشاكلنا الاقتصادية من منطلق «إطفاء الحرائق» دون أخذ المبادرة ورسم طريق واضح للمستقبل.
تشكيل مجلس أعلى للاستثمار خطوة إيجابية للتعامل السريع مع المشكلات الأكثر إلحاحا ولرفع مستوى اهتمام البلد بقضايا المستثمرين، ولكنه ينبغى ألا يتحول إلى بديل عن أجهزة الدولة البيروقراطية ومؤسساتها وفقدان الأمل فى إصلاحها وتجديد حيويتها، ولا يعطل المهمة الأكثر إلحاحا وهى تحديد التوجه الاقتصادى للدولة ووضع خريطة واضحة للمستقبل.
مقال نشر بصحيفة الشروق يوم 11 يوليو 2016