أحدث الأخبار
- "يونس" جزيرة اكتشفها صياد ولها حرمة البيوت ولا تُدخَل بغير استئذان
- رعاياها 100 مواطن ومساحتها 10 افدنة وتفصل بين محافظتي الجيزة والمنوفية
- شرطة المسطحات ووزارة الزراعة: لا نعرف الجزيرة.. والري: لم نؤجر طرح النهر لأحد
"يونس" اسم لصياد سبعيني استعمر الشيب رأسه إلا قليلا، وُلِدَ في "كفر حجازي" إحدى قرى محافظة الجيزة، وامتهن الصيد منذ طفولته. كان يبدأ يومه بجمع شباكه وعدة صيده مع الخيوط الأولى للفجر، متوكلا على الرزاق، آملاً أن يكون رزقه اليوم أفضل من سابقه، كثير المجهود قليل الصيد. ظل هكذا حينا، إلى أن حدثت طفرة غيرت حياته كلية وهو في الثلاثين من عمره تقريباَ.
على غير حكايات الجدات، لم تظهر جنية البحر أو عروسه لتغويه أو تغنيه، كذلك لم يصطد العم يونس "كنزه" من قاع البحر لؤلؤاً ومرجاناً، بل كان كنزه البحر ذاته يتجسد في جزيرة عبارة عن طرح نهر تتوسط فرع رشيد، انخفض عنها منسوب المياه، فظهرت له كسحابة شتاء تزداد رقعتها يوما بعد يوم.
امتلكها حين كانت 12 قيراطا، وظل يرعاها فتنمو وتكبر كوليد له، لتصبح اليوم ما يزيد عن عشرة أفدنة، وثروة طبيعية غابت عنها رؤية الحكومة، وخطط استغلالها كمورد طبيعي يُستخدم في السياحة.
حياة بدائية تماماً يحياها ما يزيد عن مائة نسمة، هم أهل الجزيرة من أحفاد يونس وعائلته يسيطرون عليها كاملة، يقتاتون على الصيد والزراعة، لا تعرف الوسائل المعيشية الحديثة لهم سبيلاَ من كهرباء وما يستلزمها من أجهزة كهربائية وإنارة، مساكنهم من "الغاب والأخشاب" كأدغال أفريقيا، إلا قليلا بُني بالطوب الأحمر بارتفاع لا يتجاوز ثلاثة أمتار، مسقوفة بالاخشاب، وعيدان الذرة والمحاصيل الجافة، وسيلة نقلهم القوارب الصغيرة.. وتعد الكلاب والقطط والادوات البدائية مثل " الفأس"حُراسهم من الدخلاء والحشرات الزاحفة والمتطفلين، يشاع لدى البعض خطورة أهلها وزراعتهم للمواد المخدرة مثل "الحشيش".
* حراسة مشددة
تُعرف جزيرة "يونس" لدى الحكومة "بمنيل العروس" وهو اسم القرية المقابلة لها.. تقع كفاصل بين محافظة الجيزة والمنوفية بفرع "رشيد". ويصعب الاقتراب منها دون الحصول على إذن "الملك" يونس كما يلقبه أهالي الجزيرة أو ابنه مرعي عن طريق وسيط. ويحتاج الزائر إلى الوقوف على البر الآخر للجزيرة حتى يظهر أحد سكانها وينقله اليها بأحد القوارب الخاصة بهم وحدهم بعد حصوله على الإذن.
حرص شديد طَوَّقَ به يونس مملكته، قرابة ساعة قضيناها على الشاطئ المقابل لها في انتظار قارب من الجزيرة ينقلنا اليها. في العادة، ينادي الزائر بصوت عال مُعرفاً بنفسه، فيما يجيبه "الملك" أو أحد أولاده، ليوافق على استقباله أو يرفض فيعود من حيث أتى.
بعد الاطمئنان، أرسل لنا "الملك" قاربا يقوده طفل صغير وآخر تقوده زوجة يونس. على شاطيء الجزيرة كانت أعداد كبيرة من الكلاب المدربة على التعامل مع الغرباء في انتظارنا. تُبرر وجودها زوجة يونس بأنها لقتل الزواحف كالثعابين، وأيضا للحراسة خاصة بعد حدوث مشاكل عائلية ارتبطت بظهور "الكنز".
بلهجة حازمة كالتي يتحدث بها أحمد السقا في فيلم "الجزيرة"، سرد يونس قوانين مملكته قائلاً: ممنوع على أي شخص على وجه الكرة الأرضية لمس تراب الجزيرة دون استئذان، لما لها من حرمة البيوت.
يستكمل قصتها قائلاً "اكتشافي لها، وضعني في صراع مع أطراف عدة، جميعهم يطمع ويطمح في جعلها نصيبا يمتلكه هو وعائلته، حتى وصلت الصراعات إلى ما هو أشبه بالحروب الأهلية من كر وفر وطلقات نارية للفوز بالكنز الثمين دون وقوع ضحايا". ويتابع يونس متهكما "الجزيرة تشتهر لدى الحكومة بخطورة أهلها زارعي الحشيش والبانجو، فضلاً عن افتعال المشاكل رغم حالة البساطة والفقر التي نعيشها".
على طريقة "الفلاش باك" يسترجع يونس - الذي رفض تصويره ولكن سمح بتصوير الجزيرة- ذكريات ما يزيد عن خمس وثلاثين سنة، منذ اكتشافه لتلك الهبة الربانية -كما يحلو له تسميتها- إذ يقول "في سنة 1980 كنت أعمل كصياد، وظهرت لي الجزيرة أثناء عملي، وكانت مساحتها حينذاك لا تتجاوز نصف فدان (12 قيراطاً)، مليئة بالذئاب والحشرات والغاب، وكنت بلا بيت وحالتي لا تسمح بشراء منزل، فقمت ومعي إخوتي بتطهيرها والسكن بها، فأثار ذلك حفيظة عائلات القرية المقابلة للجزيرة، وهي "منيل العروس" ونشبت بيننا حروب استمرت طويلا، وصلت إلى محاولتهم اغتيالي أكثر من مرة.
وعن وصاية الدولة لتلك الجزيرة وقانونية امتلاكها، قال يونس "لسنوات لم تَعرف الحكومة عنها شيئا، ومع الوقت قمنا بحلها ومنعاً للمشاكل استأجرها سنوياَ من هيئة المساحة، وأدفع عن القيراط المزروع خضروات 45 جنيها بينما المزروع موالح 135 جنيها".
* زوجة الكبير
خمسينية باسمة الثغر نحيلة الجسد، ينسدل شعرها خلفها في ضفائر مثل فلاحة خرجت توا من فيلم "الأرض". تُدعى "الحاجة صباح" أو "الأم الكبرى" نظرا لعدم إنجابها أية أبناء فاعتبرها الجميع أماً لهم. تُعَدُ الهبة الثانية التي وهبها الله ليونس بعد وفاة زوجته وأم أولاده.
وللأم الكبرى مملكتها أيضاً، في بيتها ومطبخها الذي يقتصر على أنبوبة غاز و"شعلة" وموقد طيني "كانون" كبديل تلجأ إليه وقت نفاد الغاز. ويعتمد أهل المنزل في الشرب على "طلمبات" الآبار الارتوازية.
تمثل صباح رمزا للجزيرة وسكانها أمام الزوار ممن يسمح لهم بالسير على أرضها، كزوجة لكبير العشيرة. فهي عندما تأمر تُطاع وعندما تتحدث يُستمع لها، إلا أنها ورغم كِبر عمرها تعمل معهم يداً بيد كما لو كانت عاملا استأجره أحدهم لرعاية ماشيته.
تقول الحاجة صباح في تفنيد المزاعم عن زراعتهم لمواد مخدرة ووجود خطورة أمنية، إنها "مُجرد شائعات، يطلقها البعض للنيل منا، حيث نتمتع بهدوء ومناظر طبيعية وحياة أشبه بالمثالية،فهنا مزروعات خالية من المبيدات والكيماويات."
وتضيف "الفقر وحده ما ساقنا إلى هنا.. هنا عشنا، وهنا سنموت ولذا نتحمل مسؤولية الكبير والصغير ونعيش في سلام ونطلب من الآخر أن يعاملنا بالمثل".
وفيما يتعلق باختلاف اهتمامات رجال الجزيرة عن نسائها، تقول "احتكاكنا بالقرى المقابلة يقتصر على تبادل السلع الغذائية نبيع الخضروات والأسماك ونشترى أدوية وسلعا غذائية". وتضيف وهي تضحك ساخرة "لا ينقصنا شئ رغم أننا ينقصنا كل شئ". وتقول إن "عدم وجود التلفزيون أمر أفتقده ويجعلني أشعر بالعزلة عن العالم، إلا أننا نفضل ذلك حتى لا تفسد أخلاق الصغار من الأفلام والمسلسلات التي تحتوي على مشاهد سيئة".
* هو وهي
من رحم الأزمات يولد الحب، معادلة تنطبق على العلاقة بين الأزواج والزوجات داخل الجزيرة، فحين تساند الزوجة زوجها في أزماته، وحين يدعم الزوج زوجته في معاناتها، يصنعان حباً لا يشوبه كدر وهذا ما يمثل علاقة مرعي وسناء.
مرعي الإبن الأكبر للعم يونس من أصل خمسة أبناء، رغم إعاقته التي تشل حركته وتمنعه من السير أو الوقوف، تَفَوَّق على إخوته الأصحاء، ويرجع الفضل في ذلك لزوجته سناء التي يبدأ يومها فجراً، وينتهي مع صلاة العشاء، فتبذل مجهودا مُضاعفا نظراً لإعاقة زوجها وحياتها البدائية، المفتقرة لأدنى احتياجات المعيشة.
وتشرح سناء طبيعة يومها قائلة "لي أربعة أبناء، اهتم بهم إلى جانب مساعدتي لزوجي في الصيد، وزراعة نصيبه من الجزيرة، فهذا مصدر رزق أولادنا، حيث استيقظ في السادسة صباحا، وأشارك في جمع المحاصيل المختلفة والتي عادة ما تكون ذرة وبرسيم وخضروات بجميع أنواعها، وفي بعض الأوقات أروي الأرض وما إلى ذلك مما تحتاجه، إلى أن تأتي العاشرة صباحا أُفَطِر أبنائي ثم نخرج أنا وزوجي للصيد".
وأضافت أنه "نظراً لإعاقته فيعتمد عليّ بشكل أساسي حيث يتولى هو عملية التجديف، بينما أرمي أنا الشِباك وأجمعها، ونستمر في تكرار الأمر بلا كلل أو ملل حتى ينتهي الوقت ونعود برزق اليوم".
تستكمل سناء في شرح يومها وما يحتويه من كفاح، قائلة "نظراً لنفوق الأسماك بفرع رشيد- بسبب وجود مصرف (الرهاوي) والذي يصب مياهه في النيل مباشرة.. وتحديداً المنطقة التي نصطاد منها غالباً لا يكون عائد الصيد مجزياً بعد شقاء اليوم كله". وتضيف أنها تذهب في نهاية اليوم إلى القرية الأقرب إلى الجزيرة "لبيع ما تم اصطياده ثم أعود لأبنائي أعد لهم الطعام ثم ينامون، لينتهي يومي بعد صلاة العشاء".
وعن صعوبة الحياة على الجزيرة، تقول "هنا لا يوجد كهرباء وبالتالي فإن يديّ تعوض عن الغسالة أو أي جهاز كهربائي، حيث أغسل ملابس الجميع يدوياً، واستغني عن الثلاجة بإعداد الطعام يوماً بيوم مع الالتزام بالكمية التي تتناولها أسرتي حتى لا يفيض شيئاً ويفسد مع عدم وجود ثلاجات".
* أبناء الغاب
وجوه صغيرة تُرسم عليها الابتسامة كومضات، لا تلبس أن تحل مكانها نظرة ثاقبة لا يحملها سوى الكهول.. هذا حال أطفال الجزيرة تراهم يشاركون الكبار جميع أعمالهم، فهذا طفل يصطاد وذاك يقود قاربا، وثالث يطعم الماشية، ورابع يجمع المحصول، وخامس يساعد الأم في أعمال المنزل، وسادس يطعم ويلاعب الكلاب. لكل وظيفته التي لا يقوم بها غيره، إلا أن الجميع يتشارك الحرمان من التعليم، وألعاب الصغار وأطعمتهم من حلوى وغيرها.
ببراءة تفصح ياسمين ابنة الإثنى عشر عاماً عن حلم امتلاك والدها جهاز تلفزيون. وتقول إنها تتمنى دوماً امتلاك أبيها لتلفزيون، مثلما يمتلك رجال البر الآخر الذين تختلط بهم أثناء ذهابها مع والدتها لبيع الأسماك وبعض المحاصيل، وحينها تجلس مع بعض أطفالهم ليقصوا عليهاَ حكايات عن الأفلام المسلسلات التي لا تعرف عنها شيئا.
وبوجه خال من التعبيرات السعيدة أو الحزينة، تسرد نيرمين ابنة السبع سنين قصة انقطاعها عن الدراسة، إذ تقول "امتنعت عن الذهاب بسبب بُعد المسافة، وما تستدعيه من ركوب القارب في السادسة صباحا يومياً حيث برودة الجو والمخاطر".
وتقتصر أحلام محمود (9 سنوات)، على أن يكون لديه عجلة مثل سمير زميله، ويضيف "ذهبت مثل أختي للمدرسة فترة ما وانقطعت فلا يوجد ما يساعدني على المذاكرة، حيث نعيش على لمبة الجاز وننام في أول الليل، حياتنا هنا تختلف كلية عن العالم الخارجي وكأننا نحيا بعالم آخر".
* حق الرد
نفى حامد العقيلي -مدير الإدارة العامة لشرطة البيئة والمسطحات المائية- معرفته بتلك الجزيرة معللاً ذلك بخضوعها لوزارة الزراعة، حيث إنها تعامل كأرض طينية تخضع لأملاك الدولة، وتباع بمزاد مثلها مثل جزيرة "الدهب" ووزارة الزراعة هي صاحبة الولاية والاختصاص، بينما شرطة المسطحات يقتصر دورها على تنفيذ القرارات الصادرة من الزراعة.
من جانبه، أكد عيد حواش -المتحدث الرسمي باسم وزارة الزراعة- عدم معرفته أيضا بجزيرة يونس، مشيرا إلى أن طرح النهر من تلك الجُزر يتبع وزارة الري.
وقال وليد حقيقي -المتحدث الرسمي باسم وزارة الري- إن "بعض الجزر تظهر في النيل نتيجة انخفاض المياه وأحيانا يكون ذلك لوقت معين في العام، وهي ملك للدولة ويكون لسكانها حق انتفاع فقط، وإلى الآن لم يحدث أن أجرّنا طرح النهر لأحد".