أحدث الأخبار
بلهجة صعيدية، يُنطق فيها حرف القاف كالجيم عند القاهريين، بينما يُعطش الجيم، قالت "تتخرج البنت من الجامعة، وتقدم على الوظيفة وتنجح في الاختبار، وتبصي تلاقيهم جابوا موظفين من بره، وبنت البلد قاعدة ما بتشتغلش".
بتلك الكلمات وصفت زينب مشهدا لا تعتبره مشهد النهاية في قصة، بطلتها أمٌ، حاربت قيودا مجتمعية وظروفا جغرافية، لتحصل ابنتها على شهادة جامعية "تستند عليها".
زينب فضل محمود، ابنة مدينة مرسى علم، سيدة في الأربعينيات من عمرها، تزوجت في سن الثالثة عشر، هي أمٌ لبنتين وشاب، تولت تربية أبنائها وهم في سن مبكرة بعد الانفصال عن الزوج.
أشغال يدوية
داخل معرض للحرف اليدوية في دار ديزاينوبيا، بميدان العباسية، جلست زينب في ثوبها التقليدي كزهرة بنفسج، خلف طاولة وضعت عليها مشغولات يدوية استغرق تنفيذ الواحدة منها أياما، لتبيعها مقابل جنيهات للجمهور.
تقول "حين ضاق بي الحال، ولم أجد المال الكافي لتربية العيال، وكنت مطلقة، أتتني جارة واقترحت علي أن أشغل أساور بالخرز".
ولم تكن بنت المدينة الساحلية تجيد عمل مشغولات الخرز، لكن أمنية مُلحة لها، كانت حافزها، فعلمت نفسها كيف ترص وحدات الخرز جنبا إلى جنب، بإتقان محكم، وتناسق بديع.
وعند ظهر كل يوم تحمل ما حاكت، وتذهب إلى شاطئ مدينتها على البحر الأحمر، تفترش الأرض تعرض أساور وعُقُود حاكتها بألوان مبهجة كما تتمنى لحياتها أن تكون.
"كان نفسي يكون عندي عيل متعلم، متخرج من الجامعة".. تلك كانت أمنيتها التي تبددت أمام أفكار مجتمعٍ حالت دون دخول ابنتها الكبرى نعيمة الجامعة رُغم تفوقها.
نعيمة كانت من أوائل الثانوية التجارية في محافظة البحر الأحمر، وكان يحق لها استكمال دراستها الجامعية على نفقة الدولة، لكن الأب رفض وعلته كانت "سنزوجها لابن خالتها"، وقد كان.
شعرت زينب بحسرة، وقررت أن تعد العُدة لتحقيق أمنيتها في نجلتها الثانية فاطمة. وقبل خمس سنوات من الآن بدأت تجيد وتتقن المشغولات اليدوية وتحضر معارض هنا وهناك تجمع المال حتى حصلت فاطمة على دبلوم التجارة بتقدير 85 بالمئة.
"وقفت لها، واصريت أن تدخل الجامعة"، وبالفعل قَبلتْ جامعة السويس أوراق فاطمة، ليبدأ صراع جديد مع الأهل الرافضين لاغتراب الابنة.
تبعد السويس عن مرسى علم بحوالي 670 كيلو مترا، ورغم ذلك وقفت زينب تساندها والدتها كحائط صد نسائي لأي رافض للالتحاق فاطمة بالجامعة، "قلت والله لو جاتها جامعة في السعودية، هاروح وراها".
التحقت الابنة بكلية التجارة، وأخذت سكنا جامعيا، بينما الأم تحيك ليلا ونهارا مشغولاتها لتغطي مصاريف نجلتها والبيت.
الخمسة الأوائل
"أحيانا كان البيت يحتاج خضار، فكنت أقضي اليوم ببصلة وحبة بطاطس، لأجل تعليم فاطمة".
تعرفت زينب على أسامة غزالي وهو ناشط في مجال الحفاظ على الحرف اليدوية باعتبارها جزءا من الهوية والتراث المصري، فصارت تشارك بمشغولاتها في معارضه في مختلف مدن مصر، تجمع المال وترسله لابنتها بالبريد، حتى حصلت فاطمة على بكالوريوس التجارة، ضمن الخمسة الأوائل على كليتها.
تقول زينب بنبرة يعنونها الفخر، "حمدا لله تعليم فاطمة كله من الأشغال اليدوية هذه".
ست واعية
في وقت كثر فيه الحديث حتى بين أبناء القاهرة عن أن التعليم لم يعد كل شيء، ونظرة نمطية للفتاة تحصرها داخل إطار بيت الزوجية، رأت زينب عكس ذلك "التعليم أولا، وقبل كل شيء، حين تُعلم البنت فأنت تُنشأ ست واعية".
زينب لم تتعلم، لكنها التحقت بدروس محو الأمية لمدة عامين، حتى باتت "تفك الخط" بعد أن كانت لا تستطيع قراءة عنوان مكتوب على شقفة ورق بين يديها.
ترى زينب أن تعليم فاطمة وغيرها من بنات مرسى علم، وسيلة سلمية لمقاومة أفكار متأصلة في مجتمع الجنوب المصري، فأهل البنت "لا يريدونها أن تذهب إلى أي مكان، لكن بعد أن حصلت بنت فلان على البكالوريوس وبنت فلان الآخر على الماجستير، دخلت الفكرة أدمغة فتيات مرسى علم، وأصبحن أكثر إصرارا على التعليم".
البحث عن وظيفة
على مدار عام كامل منذ تخرجت فاطمة سعت زينب ولا تزال لتوظيف نجلتها. تقدمت لوظائف عدة في بنوك فتحت فروعا لها حديثا في المدينة، ورغم نجاحها في كثير من تلك الاختبارات، بحسب قولها، ذهبت تلك الوظائف لغرباء على حساب فتيات المدينة اللاتي حاربن من أجل الشهادة الجامعية.
لكن زينب لم تفقد الأمل بعد في إيجاد عمل لابنتها.