أحدث الأخبار
«إحنا بتوع السامبا؟» الصيحة الرسمية فى معركة التعليم والصحة
حين تحاصرك إعلانات تدعو للتبرع لعلاج المعدمين أو لتعليم غير القادرين، اعلم أن فى الأمر خطأ كبيرا. ليست الجهات الداعية للتبرع على خطأ، ولا المتبرعون. بل سياسات التعليم والصحة فى مصر هى الخطاءة. ومن أكبر أخطائها نقص التمويل الحكومى.
فمن بين كل مائة جنيه تنفق على العلاج، ينفق المصريون ٧٠ منها من جيوبهم فى حين لا يتجاوز الإنفاق الحكومى ٣٠ جنيها، وغالبا ما نجد الأفقر قد امتنع عن العلاج، أو ترك وليده يموت بعد أن تعذر وجود حضانة. كما ينفق المصريون عشرات من المليارات سنويا على تعليم أبنائهم وسرعان ما ينتهى الأفقر إلى إخراج ابنه من التعليم. والأمر فى معظم دول العالم المتقدم والنامى معكوس. حيث تتولى الدولة جمع الضرائب واشتراكات التأمين الصحى، كى تقدم للجميع فقراء وأغنياء نفس التعليم والعلاج الكفء والمجانى. بينما فى مصر يقل الإنفاق الحكومى على التعليم والصحة حتى عن مثيله فى الأردن أو فى تونس.
ماذا عن بقية الـ90 مليون مصرى؟
قد يقول قائل، ولكن حكومتنا غير كفء وقد تهدر أموال الضرائب، لذا فمن الأجدى أن يدفع القادرون أموالهم لتلك المؤسسات الخيرية مباشرة فهى الأكفأ فى صرف الأموال وأقل فسادا. فى هذا القول أكثر من عوار.
أولا: إن حجم الأموال المطلوبة للنهوض بالتعليم والصحة أكبر من الطاقة الخيرية. مهما بلغت قدرة تلك المؤسسات، فهى لن تستطيع أن تجمع 90 مليار جنيه سنويا، وهو حجم فجوة الموارد اللازمة لتلبية الحد الأدنى اللازم للارتقاء بالتعليم والصحة، كما جاء فى الدستور المصرى. نعم، هى تقدم العلاج لعشرة آلاف أو مائة ألف ممن يحتاجون العلاج، ولكن ماذا عن بقية الـ90 مليون نسمة، الذين يحتاجون أيضا كلهم فى يوم من الأيام للعلاج.
كان الدستور قد ألزم الحكومة بدءا من العام المالى الذى بدأ فى يوليو ٢٠١٦ بأن تنفق ما مجموعه ١٠٪ من الناتج القومى الإجمالى على كل من الصحة والتعليم والتعليم العالى والبحث العلمى. وقدرت ورقة أصدرتها المبادرة المصرية للحقوق الشخصية حجم الموارد اللازمة، لتحقيق هذا الاستحقاق الدستورى والتى لم تدبرها الحكومة هذا العام بـ٩٠ مليار جنيه وهو مبلغ يمثل نحو ثلث الضرائب فى مصر. (http://eipr.org/sites/default/files/reports/pdf/budgetpositionpapaer.pdf)
ثانيا: إن عملية تحديد أولويات ومواءمات الإنفاق عملية معقدة مسئول عنها حكومات ومجالس شعب محلية وبرلمان، أى جهات منتخبة ومسئولة أمام المواطنين عن تقديم أفضل الخدمات العامة. وتلك الأمثلة أضربها لتقريب الفكرة. فالجمعيات الخيرية تسد بابا أو أكثر من الاحتياجات لبعض المصريين من الفقراء والمحتاجين من تعليم وعلاج. ولكنها لا تنتج سياسات تعليمية وصحية قادرة على وضع مصر فى مصاف الدول الأفضل تقديما لخدمات التعليم والصحة.
وهكذا قد تبنى مؤسسة خيرية مستشفى لعلاج الأورام، وهو أمر محمود ومطلوب. ولكن هناك ما هو أكثر من ذلك فى السياسات المتعلقة بالصحة العامة: فحين يكون السؤال هو توزيع الموارد النادرة على الاحتياجات المتعددة، تخضع الأمور لعمليات مواءمة وتحديد أولويات للإنفاق، لضمان أن تنفق الموارد المحدودة فى أكثر الأوجه احتياجا. ولنكمل مع مثال علاج الأورام. يجب أن تكون أسئلة السياسات العامة «مسئولية الحكومة»، ما هى تكلفة إجراءات الوقاية من الأورام مقابل تكلفة العلاج؟ هل الأفضل للمرضى والأرخص للدولة بناء مستشفى مركزى كبير أم مراكز علاجية صغيرة منتشرة حيث ينتشر المرض؟ هل إتاحة العلاج المجانى للجميع أفضل أم العلاج على نفقة الدولة، بحسب كل حالة على حدة؟ بل ما هى خريطة أمراض المصريين، وبالتالى ما هى الأمراض الأولى بالإنفاق الحكومى؟ وهى أسئلة بالطبع ليست فى ذهن ولا مقدور أى مؤسسة خيرية الإجابة عليها ولا تلبية تبعات الإجابة.فاتت الفرصة على ملايين الأطفال...
غياب تلك الأسئلة الكلية هو ما أدى إلى الوضع الذى نشهده اليوم. وخذ التعليم مثلا، من باب التنويع، لا من قلة الأمثلة فى العلاج: هناك أكثر من مليون ونصف طفل جديد يذهب كل عام إلى المدارس. ولكن الفصول الجديدة لا تتسع إلا لربع هذا العدد. أى أن مجرد زيادة الإنفاق الحكومى خلال العام الحالى ــ تلبية للدستورــ من أجل بناء الفصول وتعيين المدرسين اللازمين لها يتيح تعليما أفضل فى المدارس الحكومية الابتدائية. تخيل أيضا لو أن المدارس الحكومية تقدم وجبة ساخنة صحية للتلاميذ، وهو أمر يكلف بضعة مئات من الملايين «فتات نسبة لإجمالى الإنفاق على التعليم» ولكنه إجراء لا غنى عنه نظرا لتزايد أعداد الجوعى فى مصر خلال السنوات الأخيرة، وتفشى ظاهرة سوء التغذية والتقزم وضعف التحصيل الدراسى بين الأطفال. بل ومن شأنه أن يحفز الأهالى على إرسال أبنائهم إلى المدارس كما تدلنا التجارب الملهمة فى عدد من الدول الأفريقية.
فاتت الفرصة على ملايين من الأطفال بسبب تجاهل الحكومة للدستور وتواطؤ البرلمان. وطبعا المبادرة الخيرية لتجديد المئات من المدارس لن تجدى فى حل مشكلات بهذا الحجم.
نرجع إذن إلى ما اتفقت عليه مئات الدول بعد تجارب مئات السنين، وهو أن العلاج والتعليم هو فى صلب دور الدولة تماما كالعدل والدفاع والأمن. فماذا هى فاعلة فيها؟
معركة الأيام العشر...
نتيجة تجاهل الحكومات المتعاقبة فى مصر لهذه المسئولية، فقد وصلنا إلى مصاف أسوأ تعليم ابتدائى فى العالم، مع تسرب مائتى ألف من التعليم الأساسى كل عام «واحد من كل خمس تلاميذ»، وهروب الطلبة من دراسة العلوم لعدم جدواها لهم نتيجة تردى الإنفاق الحكومى على البحث العلمى. كما لا يدخل الجامعات سوى 2% فقط من الشباب، ويأتى ترتيب مصر 111 من بين 144 دولة فى مؤشر التعليم العالى والتدريب. وإجمالا جاء ترتيب مصر 97 من بين 144 دولة فى مؤشر تحقيق المتطلبات الأساسية من الصحة والتعليم الأساسى. ومع ذلك، اتفقت النخبة السياسيةــ رئيسا وحكومة وبرلماناــ أن يظل المصريون بلا تعليم وبلا علاج. هذا ما كشفت عنه معركة الأيام العشر.
قدمت الحكومة مشروع الموازنة إلى مجلس النواب، بعد موافقة الرئيس عليه، متجاهلة النصوص الدستورية التى تلزمها بزيادة الإنفاق على الصحة والتعليم والبحث العلمى– بحسب حسابات المبادرة المصريةــ بمقدار يتراوح بين 90 مليار جنيه (و64 مليار إذا ما قبلنا حجة الحكومة وهى احتساب بعض الإنفاق الحكومى على تلك المجالات والذى لا يظهر فى الموازنة العامة). وهو أمر كان يعنى على الفور الطعن فى دستورية تلك الموازنة فى حال قبولها بهذا الشكل. فماذا فعل البرلمان الذى لم يطق أن تلتصق به سبة هذه؟ بئسا فعل.
هل تعرفون النكتة التى تطلق على أحد رؤساء البرازيل؟ وقف الرئيس مرعدا مزبدا يشتم الرئيس الأمريكى الذى يروج عن الشعب البرازيلى عبارات عنصرية، منها أنه شعب لا يعرف سوى رقص السامبا. «إحنا بتوع السامبا؟» قالها الرئيس أول مرة غاضبة مقتضبة. «إحنا بتوع السامبا؟» جاء التساؤل للمرة الثانية مفخما منغما، حتى إذا تساءل للمرة الثالثة شرع وشرع الحضور فى رقص السامبا.
هذا ما فعله البرلمان. فقد وقف البرلمان يرعد ويزبد قائلا «إحنا نتجاهل الدستور؟» والعياذ باللهــو لكنه انتهى إلى أن يتجاهله.
هكذا وبعد أن ناقش الموازنة العامة لكل أجهزة الدولة ولكل محافظة وقرية وحى فى عشرة أيام فقط (الدستور يلزمه بثلاثة أشهر من المناقشة والتعديل)، بادر المجلس بإقرار أن الموازنة متوافقة دستوريا (عكس تصريحات خجولة لأحد مسئولى وزارة المالية). وذلك بعد أن ألصق بكل من القطاعات الثلاثة نصيبا من المبالغ الضخمة المخصصة، لتسديد فوائد الدين العام، بحيث إذا ما جمع هذا المبلغ على المبالغ الضئيلة التى خصصتها الحكومة للتعليم والصحة والبحث العلمى تصل ــ أو تكادــ إلى المبلغ المطلوب دستوريا.
ونسى النواب...
ونسى النواب أن يشرحوا لنا كيف ستؤدى هذه الخدعة المحاسبية الفجة والمتعارضة مع كل أصول المالية العامة إلى تحسين نوعية العلاج ولا إلى وصوله إلى كل المواطنين، ولا تحسين كفاءة منظومة التعليم أو إتاحة الفرصة المتكافئة أمام جميع المواطنين لبناء أطفال سعداء قادرين على الإبداع وعلى العمل الماهر.
حين تجاهلت الحكومة الاستحقاق الدستورى، ظننت أن هناك طريقين: إما أن يرفض البرلمان استمرار مهزلة تجاهل التعليم والصحة. ويلزم الحكومة بتعديل موازنتها «وهو أمر قدمت فيه ورقة المبادرة المصرية مقترحات ببدائل» ــ أو أن يوافق البرلمان ضمنيا على هذا التجاهل، وساعتها هناك المحكمة الدستورية. إلا أن تحايل مجلس النواب، والتفافه على الدستور، فاق التوقعات.
فكأن البرلمان أصدر حكما نهائيا بأن كُتِب عليكم أيها المصريون أن تعيشوا جهلاء ممروضين، وللحكومة أن تنفق أموال ضرائبكم فى مجالات أخرى! وليكن حرمانكم أبديا من حقكم فى تعليم وصحة تحظى بهما كوريا الجنوبية بل كوريا الشمالية وكوبا. لم أعد أدرى أيهما كان أفضل؟ التجاهل أم التحايل.