أحدث الأخبار
اعتبارات الاقتصاد والحوكمة في اتفاق صندوق النقد الدولي
أعلنت الحكومة الأسبوع الماضى عن مفاوضات متقدمة مع صندوق النقد الدولى بغرض توقيع اتفاقات قبل نهاية العام تتيح لمصر الحصول خلال السنوات الثلاث المقبلة على قروض تبلغ جملتها نحو ٢١ مليار دولار، منها ١٢ مليارا من الصندوق وحده، و٩ مليارات الباقية من مؤسسات دولية أخرى ومن الأسواق المالية.
وقد جاء الإعلان ليحسم الغموض والتكهنات حول هذا الموضوع ويضع نهاية للتضارب فى تصريحات المسئولين بشأنه، ولذلك فإن مجرد خروجه إلى النور يجب أن يكون محل ترحيب لأنه يتيح للمجتمع أن يتابع ويشارك فى حوار مطلوب حول خطوة قد تكون فارقة فى المستقبل الاقتصادى للبلد.
تقديرى أن الجدل المتوقع فى الأسابيع القادمة بشأن الاتفاق مع صندوق النقد الدولى سوف ينتهى فى نهاية الأمر بقبول مجلس النواب للاتفاق وللشروط المصاحبة له من منطلق أن الظروف الاقتصادية الراهنة لا تدع مجالا لبدائل أخرى بعد أن وصلنا إلى مرحلة خطيرة من تراجع الاستثمار والإنتاجية وزيادة التضخم والدين العام.
والواقع أن البدائل المتاحة قليلة بالفعل. فخلال العامين الماليين المنصرمين فقط ــ من بداية يوليو ٢٠١٤ حتى نهاية يونيو ٢٠١٦ ــ شهد الاقتصاد المصرى ارتفاع الدين العام الداخلى من ١.٦ تريليون جنيه إلى ما قد يتجاوز ٢.٦ تريليون، وارتفاع الدين العام الخارجى من ٤٦ مليار دولار إلى ٥٣ مليارا، وزيادة نسبة الدين العام إلى الناتج القومى الإجمالى من ٩٥٪ إلى ما يقرب من ١٠٠٪، وانخفاض سعر صرف الجنيه المصرى أمام الدولار الامريكى فى السوق الموازية بما يقرب من ٤٥ ٪، وارتفاع نسبة التضخم من ١٠٪ إلى نحو ١٣٪، وهذا كله مع استمرار البطالة فى حدود ١٣٪.
ما تأمل الحكومة تحقيقه من الاتفاق هو الحصول على تمويل منخفض التكلفة بما يسمح بتجاوز الأزمة الراهنة، وفتح أبواب التعامل مع أسواق المال العالمية، وتشجيع عودة الاستثمار الأجنبى. من جهة أخرى فإن الاتفاق سوف يفرض على الحكومة إدارة أفضل للمالية العامة وتنسيقا أكبر فى السياسات الاقتصادية والتزاما بقدر من الشفافية لم يكن متاحا من قبل.
ولكن على المقابل فإن الأرجح أن الاتفاق سوف يلزم الحكومة بسياسات وإجراءات تؤدى، على الأقل فى المدى القصير، إلى المزيد من زيادات الأسعار وتخفيض الدعم السلعى والحد من الإنفاق الاجتماعى فى وقت تعانى فيه الطبقات المتوسطة والفقيرة من الغلاء وضعف الخدمات العامة، كما أنه يدفع إلى زيادة غير مسبوقة فى الدين العام الخارجى تجعله يقترب من ضعف ما كان عليه منذ عامين خاصة مع نفاذ الاتفاقات المبرمة هذا العام.
لذلك فمن الضرورى ألا يقتصر الحوار الراهن حول مجرد رفض أو قبول الاتفاق مع الصندوق بل التفكير فيما يجب أن تغيره الدولة من أسلوبها فى تناول الملف الاقتصادى لكى لا يتحول الأمر إلى مجرد زيادة فى الدين الخارجى وإلقاء المزيد من الأعباء على الطبقات المتوسطة والفقيرة دون أن يقابل ذلك تحسن حقيقى فى الادارة الاقتصادية يستفيد به الوطن والمواطن. ولتحقيق ذلك فأقترح أن يتزامن مع مفاوضات الصندوق التفكير والضغط من المجتمع نحو تحقيق الأهداف الأربعة التالية:
أولا: إعادة تحديد دور الدولة فى الاقتصاد القومى، ما الذى ينبغى لها أن تنتجه بنفسها وما الذى تشجع القطاع الخاص على إنتاجه، وما الذى توفر له المناخ المناسب أو تفرض عليه الرقابة اللازمة. أما استمرار الحالة الراهنة التى تقوم فيها الدولة بأجهزتها المدنية والعسكرية بكل شىء واعتمادها على طبيعتها السيادية فى منافسة القطاع الخاص دون تحديد دور كل منهما فهذا وضع ضار بالاقتصاد القومى.
ثانيا: إعادة النظر فى كيفية توزيع العبء الضريبى على الفئات المختلفة فى المجتمع، وآليات توسيع قاعدة دافعى الضرائب ومكافحة التهرب الضريبى، وما يجعل النظام الضريبى دافعا لمزيد من الاستثمار ومحققا للعدالة الاجتماعية بدلا من الاعتماد على أساليب الجباية التى لا تزال تميز إداراتنا الضريبية وتدفع للبحث دائما عن المصادر الأسهل فى التحصيل وليس الأقدر على تحقيق السياسة الاجتماعية المنشودة.
ثالثا: إجراء مراجعة ضرورية لاولويات الدولة فى الانفاق العام من أجل توجيه الموارد والطاقات المحدودة بعيدا عن مشروعات غير مدروسة ومرتفعة التكلفة مهما كانت مكاسبها السياسية والمعنوية، والاستفادة بها فى استكمال وتحسين البنية التحتية القائمة والارتفاع بمستوى الخدمات العامة والمرافق التى تخدم الغالبية الساحقة من المواطنين فى شئون حياتهم اليومية.
رابعا: تفعيل دور الرقابة البرلمانية والأهلية والسياسية على الاتفاق مع المؤسسات المالية الدولية وعلى ما تلتزم به الحكومة وما تنفذه ومتابعة الأثر الاقتصادى والاجتماعى لهذه البرامج لان هذه الرقابة لا ينبغى أن تنتهى بالتوقيع على الاتفاق وإقراره من البرلمان بل تبدأ من هذه اللحظة وتكون فى كل مراحلها محلا للمساءلة والمراجعة والتصحيح. وهذا يقتضى المزيد من الشفافية فى المعلومات تتيح للمجتمع المصرى ما هو متاح للمؤسسات الدولية وخبرائها.
وأخيرا فأتمنى أن يدرك صانعو القرار الاقتصادى أن المناخ العام الذى تغيب عنه الحرية وتتراجع فيه قيمة القانون وتسيطر عليه أجواء التوجس والتقييد ولا تتوافر فيه ظروف المشاركة السياسية والأهلية هو بطبيعته مناخ طارد للاستثمار ومعطل لطاقات الإبداع والابتكار والريادة ومشجع للفساد، ولذلك فلن يمكن الحديث عن إصلاح اقتصادى أو مالى دون أن يصاحب ذلك انفراجة فى المناخ السياسى وإطلاق للحريات واحترام للدستور والقانون.
* المقال منشور في صحيفة الشروق في عددها الصادر اليوم الثلاثاء 2 أغسطس 2016