أحدث الأخبار
فى ذكراها.. سلام على صانعى المبادرة
احتفل حزب البناء والتنمية بذكرى مرور عشرين عاما على مبادرة العنف التى كانت سببا فى حقن دماء الكثيرين والإفراج عن عشرات الآلاف من المعتقلين.
• وقد تحدث كثيرون فى هذه الذكرى منهم عبود الزمر وأسامة حافظ، وصلاح هاشم، ومنتصر الزيات، وصلاح رجب، ونصر عبدالسلام ومن أهم ما قاله الشيخ أسامة حافظ «ضرورة استلهام روح المبادرة وأجواء الحوار لحل المشكلات الحالية».
• ودعا الزمر ومحمد ياسين والزيات «الفصائل الإسلامية كلها أن تقتفى آثار المبادرة وتحذو حذوها للخروج من دوامة الصراعات السياسية والمأزق الخطير الذى يمر به الوطن».
• عدت بذاكرتى إلى أيام المبادرة الأولى منذ عشرين عاما، كنت أظن أننى واحدا من صناع المبادرة فإذا بى أتعلم منها الكثير حتى صارت نقطة بداية حقيقية لحياتى الجديدة.
• فقد تعلمت منها أن صنع السلام أصعب من صنع الحروب والصراعات التى قد يحسنها أى أحمق، أما السلام فلا يحسنه إلا القليل، وأدركت أنك قد تُشتم ويطعن فى عرضك وأنت تصنع السلام من قصيرى النظر ومتخلفى الفكر، وأن الحرب تبدأ بكلمات قد لا يريد أصحابها إشعال الحروب ولكنه نطق بخطاب الحرب والصراع، أما السلام والصلح فيبدأ بكلمات واردة فالصلح له خطابه، وللحرب خطابها، فلا يمكن أن تريد الصلح وأن تطلق خطاب الحرب وتؤجج الصراع.
• وتعلمت أيضا: أن كل خطوة فى العنف والصراعات تدل على أختها وتوصل إليها، وكل موقف فى السلام يدل على نظيره ويوصل إليه.
• كما أدركت أن القائد العظيم هو الذى يخرج الناس من السجون والبلاء، أما القائد الفاشل فهو الذى يحشر أتباعه وأبناءه إلى السجون والمعتقلات والبلاء، مع أنه كان يملك فى بعض الوقت أن ينقذهم منها بكلمة.
• وتعلمت أن أعظم ما يتقرب به العبد إلى ربه حقن الدماء، وهى أعظم من كل العبادات، وأن الإسلام جاء بحفظ الأنفس جميعا المسيحى والمسلم واليهودى والأمريكى والبريطانى والسنى والشيعى والهندوسى والسيخى والسلفى والإخوانى والجيش والشرطة وكل أحد، فقد أطلق القرآن كلمة نفس فى قوله تعالى: «من قتل نفسا بغير نفس».
• وقد قربتنى المبادرة من الرئيس السادات لأننى أدركت معاناته فى صنع السلام وأن الصلح والسلام لابد فيه من غبن وهضم وأن ذلك أفضل من استمرار الحروب.
• كما حببتنى المبادرة حبا جما فى «الحسن بن على» الذى تنازل عن منصبه الرفيع «الخلافة» لمن هو أدنى منه حقنا للدماء، وقد آليت على نفسى أن أنشر فضله طوال عمرى فهو من أعظم رواد فقه الصلح والتسامح فى التاريخ، وقد فعلت ذلك والحمد لله، فقد عرفت الدنيا كلها طوال 20 عاما بفضل هذا الصحابى الجليل صانع السلام وحاقن الدماء الزاهد فى الدنيا ومناصبها والذى منحه الله جائزة «إن ابنى هذا سيد».
• وقد جعلتنى المبادرة من القلائل فى مصر الذين يكتبون عن «فقه الصلح» الغائب تماما عن عقل وقلب المصريين جميعا، كما جعلتنى أقف طويلا أمام «فقه المآلات» و«فقه المصالح والمفاسد».
• وتعلمت منها أنك إذا أردت أن تحمل خصمك السياسى على السلام، أو دفع الدولة إلى وقف التعذيب والتصفية الجسدية والقبض العشوائى فأوقف أنت العنف أولا وستجد الدولة من تلقاء نفسها تراجع نفسها وتتوقف عن كل هذه المخازى.
• وإذا أردت من الدولة أن توقف حماقاتها ضدك فأوقف أنت حماقاتك ضدها، فإذا بذلت العفو والرحمة والصفح والسلام فستجد الجميع يعاملك بنفس منطقك ولو بعد حين.
• وتعلمت من المبادرة أن المراجعة الذاتية الصادقة لوجه الله وحده هى السبيل الأمثل لإصلاح مجتمعاتنا، فـ«فقه المراجعة» من أعظم أنواع الفقه الإسلامى وأحسب أن طرفى المبادرة من الدولة والجماعة كان لهم السبق فى إيجاده على أرض الواقع وتحويله إلى فقه حى نابض قوى يمشى على الأرض.
• وتخطئ الدولة والجماعات إذا ظنت أن المراجعة تعد تراجعا مذموما، فالمراجعة أن تعود إلى الحق والصواب وتترك ما سواهما، أما التراجع فيعنى أن ترجع عن الحق والعدل والرحمة والقيم النبيلة إلى الباطل والسوء والعنف والاغتيالات أو التعذيب والتصفية الجسدية.
• والحركات الإسلامية هى تجمعات بشرية تخطئ وتصيب وهى تختلف تماما عن الإسلام المعصوم.
• وقد قال لى يوما اللواء أحمد رأفت: إن كنتم راجعتم أنفسكم قيراطا فقد راجعناها فدانا، فالسجون كانت فى اتجاه واحد للدخول دون خروج أبدا، فأصبحت بالعكس تماما، وكانت دائرة الاشتباه واسعة جدا فإذا بالاعتقال ينتهى تماما، وتحولت السجون المصرية من أسوأ السجون إلى أحسن السجون فى المنطقة العربية.
• أما الذى أضمره ولم يصرح به من مراجعات الدولة فهو تحول مقار أمن الدولة ولأول مرة فى تاريخ مصر من مكان للرعب والتعذيب والصراخ إلى موطن لحل مشكلات المفرج عنهم ومساعدتهم والتخفيف عنهم، فجميع الذين جاءوا من خارج مصر عقب المبادرة لم تمتد لهم يد بسوء، وكل الذين سلموا أنفسهم لم يغدر بهم أحد كما كان يحدث من قبل.
• لقد كانت هناك حالة إهدار للكرامة الدينية والإنسانية غير مسبوقة فى السجون المصرية فى التسعينيات قبل المبادرة، فإذا بالسجون تتحول بعدها إلى مدرسة كبيرة للدراسة والفكر والحوار والمحاضرات حتى وصل الأمر إلى عرض مسرحيات فى مناسبات الأعياد يقوم المعتقلون فيها بكل شىء تأليفا وتمثيلا وإخراجا ويحضرها كبار الضباط والمباحث والمأمور، كما تمت زيارة ألف معتقل لمنازلهم عدة ساعات فى مناسبات المرض أو الوفاة أو الأفراح فى سابقة فريدة أظنها لن تتكرر فى تاريخ مصر، وذهب بعض المحكوم عليهم بالإعدام إلى بيوتهم وعادوا دون كدر ولا مشكلة ولا إجراءات أمنية مبالغ فيها، فقد أزالت الثقة بين الفريقين كل الشكوك والهواجس والإحن والضغائن.
• أما الرعاية الصحية فقد تغيرت جذريا وبعد أن كانت السجون تودع معتقلا شابا يموت كل أسبوع لأسباب واهية مثل إصابته بالفشل الكلوى لأن حقن الأنسولين غير موجودة أو تالفة، أو إصابة عدة آلاف بالدرن نتيجة القهر وعدم الخروج للشمس من الزنزانة مطلقا، وإذا بالصحة والعافية تعود مع عودة الكرامة والخروج من الزنزانة مع الرعاية الصحية التى يدل على تمامها إجراء أكثر من خمسمائة جراحة فى مستشفيات السجون خلال عامين فقط بعد المبادرة من فرق طبية ذات كفاءة عالية.
• لقد استطاع فريقا المبادرة من الدولة والجماعة أن يعبروا بمصر من نفق البندقية والعنف المظلم إلى نور الحوار والتفاهم، ومن منطق التعذيب إلى اللقاء والتفاهم والمودة، ومن نهج التربص المتبادل إلى حرص كل طرف على مصالح الوطن المشترك، وإلى أن يأمنك وتأمنه ويشعر كل طرف نحو الآخر أنه شقيقه فى الآدمية والدين والإنسانية، وأنكما تشتركان فى أشياء كثيرة وتختلفان فى جزيئات هامشية، وضعكما صراع الكبار فى مواجهة لا تفيدكما بل تضركما.
• منظومة المبادرة كانت صعبة أنجحها إخلاص الفريقين وتجردهما، فكلاهما كان لا يريد شيئا ولم يحصل على شىء، فبعد سنوات مضنية قضاها اللواءأحمد رأفت إذا به ينحى فجأة خارج الأمن السياسى كله فتصدم مشاعره ولا يتحمل قلبه الصدمة فيموت من فوره.
• أما معظم صناع المبادرة من الجماعة فقد رغبوا أن تكون المبادرة هى آخر أعمالهم فيها، فاستقال بعضهم، والبعض الآخر بقى متحملا لهذه المسئولية ومحافظا على ما أرسته المبادرة من مبادئ جامعة، وبعضهم فضل الاستقالة من كل الجماعات والأحزاب بل والوظائف ليغرد حرا دون قيود على كل غصن دون أن يتحمل مسئولية أن يدخل أحد السجن بسببه.
• لقد قلت مرارا إننى لو سألت عن أرجى عمل أتقرب به إلى الله لقلت: هذه المبادرة، فتحية لكل من يقدم غصن الزيتون، ويصنع السلام، ويزرع الأمان والأمن والعفو والصفح والرحمة، ويوقف مسلسل الاغتيالات أو التعذيب والقهر والإقصاء.