أحدث الأخبار
التفاؤل والتشاؤم فى السياسة المصرية
من البديهى أن كل دول العالم تواجه مشاكل، لا يستثنى من ذلك أقواها وأكثرها تقدما. الولايات المتحدة تواجه صعوبات بالغة فى عجز موازنتها، وفى العلاقات بين المواطنين الأمريكيين من ذوى الأصول الإفريقية، وقوات الشرطة، والحكومة البريطانية لا تعرف كيف تتعامل مع نتيجة الاستفتاء الذى قضى بخروجها من الاتحاد الأوروبى، وألمانيا تتعثر فى استيعاب اللاجئين، ومعدلات البطالة لا تزال مرتفعة فى فرنسا.
هذه القضايا كلها مطروحة للنقاش العام فى هذه المجتمعات من خلال الصحف وقنوات التليفزيون والإذاعات، وكذلك عبر أدوات التواصل الاجتماعى. وبطبيعة الحال كثيرون ينتقدون أسلوب تعامل الحكومة مع هذه القضايا، ولكن أنصار الحكومة لا يصفون المعارضين مهما كانت شدة انتقاداتهم بالمتشائمين الذين يضعفون من الروح الوطنية، ويرسلون رسائل محبطة لرجال الأعمال والشركات الأجنبية التى تستثمر فى هذه البلاد.
أما عندنا فى مصر، وليست مصر استثناء من كل دول العالم، فلدينا مشاكلنا الكثيرة، ولكن إعلامنا وحيد الصوت يصف من يتحدثون عن هذه المشكلات ليس فقط بأنهم متشائمون، ولكنهم إما ضالعون فى مؤامرة كبرى تستهدف الإطاحة باستقرار البلاد، أو أنهم سذج انقادوا إلى هذه المؤامرة وهم لا يعرفون مراميها الخفية، ولا يعرفون من وراءها، مع أنهم بالنسبة لإعلامنا معروفون جيدا، فهم أهل الشر الذين يشملون الإخوان المسلمين وثوار يناير وقطر وتركيا، ولا يتردد إعلامنا فى وضع كل من إسرائيل والولايات المتحدة فى هذه القائمة، وإن كان يفعل ذلك الآن على استحياء فيما يتعلق بإسرائيل التى تسعى حكومتنا لإقامة سلام دافئ معها.
***
لكن لماذا تجد هذه المفردات اللغوية استخداما واسعا فى خطابنا السياسى، وتكاد تكون غائبة تماما فى الخطاب السياسى فى الدول ذات النظام الديمقراطى؟ أليس التفاؤل والتشاؤم صفات لصيقة بالشخصية الإنسانية، حتى ولو كان كثيرون يعتقدون أن رؤيتهم للعالم عقلانية وعلمية، وأنهم يؤسسون مواقفهم على أدلة ملموسة أو حجج منطقية.
التفاؤل والتشاؤم فى الدول الديمقراطية هما أمران نسبيان، فالمتفائل هو الذى يرى أنه رغم الصعوبات فإنه يمكن التغلب عليها أو التقليل منها باتباع سياسات معينة معروفة ومحددة، والمتشائم هو الذى يرى على العكس من ذلك، فإن هذه السياسات بعينها قد تفاقم من هذه المشكلات، ولكنه يرى أن هناك سياسات بديلة لو اتبعت فسوف تؤدى إلى نتيجة مغايرة.
أما عندنا فالمطلق هو الذى يسود فكرنا ومواقفنا، فالتفاؤل هو موقف مبدئى من قائد سياسى أو من حكومة أو حزب، والتشاؤم هو أيضا موقف مبدئى من قائد سياسى أو حكومة أو حزب، وبالنسبة للبعض فالأمر يرتبط بتوجه فكرى محدد، فالإسلام هو الحل، وفى رأى آخرين الديمقراطية هى الحل. والمتشائم هو الذى لا يرى حلا لكل المشكلات فى هذا أو ذاك.
ولكن هذه الصفة المطلقة للتفاؤل أو التشاؤم لا تعود فقط إلى ما قد يعتبره البعض تركيبة العقل العربى الذى يرفض النسبية فى الأحكام، ويعادى البرهنة على صحة مواقفه معتمدا إما على الاستشهاد بمقولات لا تقبل التشكيك سواء كانت مستمدة من كتب مقدسة أو من كتابات مفكرين لا ينطقون بباطل، وهو ما يسميه المفكر المغربى محمد عابد الجابرى بمنطق العرفان، أو مكتفيا بشرح تفاصيل موقفه، وهو ما يسميه نفس المفكر بمنطق البيان.
لا يجدى منطق العرفان أو البيان فى مخاطبة الرأى العام فى الدول الديمقراطية، ولكن المنطق السائد هو منطق البرهان، حتى ولو كان قائما على حجج زائفة، مثل الرواية التى روج لها المحافظون الجدد فى الولايات المتحدة عن مسئولية صدام حسين عن هجمات الحادى عشر من سبتمبر، والتى استبدلها الكونجرس الأمريكى برواية أخرى عن تورط الحكومة السعودية وراء هذه الهجمات.
تعود هذه الصفة المطلقة لخطابى التفاؤل والتشاؤم فى حياتنا السياسية العربية كذلك لغياب الديمقراطية أو رصيدها بالغ الهشاشة فى معظم دولنا العربية. فحكوماتنا تستهين بالرأى العام ولا تقبل نقاشا نقديا لسياساتها، ولذلك فالمتفائلون لا يعرفون سندا لتفاؤلهم سوى إيمانهم المطلق بالقائد الملهم أو النظام المثالى الذى سيأتى كل الخير على يديه، وعندما تسألهم، وهل تؤدى سياساته إلى هذه النتائج المأمولة يكون ردهم أنها لابد وأن تكون كذلك.
والمتشائمون يرون أنه لا يمكن توقع أى خير لا من قائد معين ولا من سياساته ولا من نظامه. ولذلك يكون من المألوف أن يدعو المتفائلون للوقوف صفا واحدا وراء القائد الملهم، وأن يدعو المتشائمون إلى الإطاحة بهذا القائد أو النظام، فلا خير يرجى من أى منهما.
***
إذا كنت مثلى لست متفائلا على طول الخط ولست متشائما فى كل الحالات، ولكن تفاؤلك أو تشاؤمك يكون نسبيا، بحسب قدرة السياسات المقترحة على الوصول إلى الغايات المرجوة. فسوف تجد موقفك صعبا عندما تتأمل أوضاعنا العامة فى مصر.
نفترض أنك من أنصار ثورة يناير وتريد لأهدافها فى العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية أن تتحقق. فهل تجد ما يشير إلى أننا نسير على هذا الطريق؟
تشير التقارير الرسمية إلى أن حجم البطالة ثابت تقريبا، وأن نسب الفقر فى ازدياد، وتعرف بكل تأكيد أن آلافا من المواطنين فى السجون تقدرهم وزارة الداخلية بثمانية آلاف، وترتفع تقارير منظمات حقوق الإنسان بهذا العدد أحيانا أضعافا مضاعفة،
ولكنك تعرف من متابعتك للصحف ولحوارات التليفزيون أن مساحة تعدد الآراء كانت أوسع على أيام مبارك، وتذكر أعدادا من الإعلاميين توقفت برامجهم وآثروا الرحيل خارج البلاد أو قبلوا بالصمت صاغرين، كما لا تجد فى معدلات الضريبة فى مصر، والتى هى أقل مما تعرفه الدول الرأسمالية ما يحقق العدالة الاجتماعية،
ثم تسمع عن سوء الأحوال فى مدارسنا ومستشفياتنا، واضطرار آلاف من الشباب للمغامرة بحياتهم فى قوارب الغرق بحثا عن فرصة للحياة الكريمة فى دول أوروبا، وعندما تتأمل كل ذلك فسوف تستنتج أن عقودا طويلة مازالت أمامنا حتى يشعر المواطنون فى بلادنا بالكرامة الإنسانية.
أكاد أسمعك تقول لى إنك لست من أنصار ثورة يناير ولست من خصومها، ولكنك مثل غالبية المصريين تريد حياة مستقرة، تريد أن تطمئن على لقمة العيش فأنت تعيش على دخلك المحدود، ولكنك تريد لوطنك قدرا من الديمقراطية، ليس مثل ما تعرفه دول مثل السويد أو النرويج أو ألمانيا أو فرنسا، ولكن فلنقل مثل تونس أو حتى المغرب، حيث توجد انتخابات نزيهة بعيدة عن تدخل أجهزة الإدارة، ومجالس نيابية تمثل جميع التيارات السياسية فى البلاد، وإعلام متنوع، وقدر واسع من الحريات الشخصية، بما فى ذلك الحرية من القبض والاعتقال التعسفى.
إنى متعاطف معك، ولكن أحوالنا الاقتصادية ليست هى ما تتمناه، تدهور قيمة الجنيه المصرى فى مواجهة العملات الدولية يعنى، قبل تخفيضه رسميا، ارتفاع نفقة المعيشة وانكماش دخلك الفعلى، وأنك فى الشهر القادم لن تستطيع شراء نفس القدر من السلع والخدمات الذى اشتريته هذا الشهر، وسوف يزداد انكماشه بتطبيق قانون ضريبة القيمة المضافة، وغالبا بأكثر مما توقعته الحكومة، فهذا هو حال السوق فى بلدنا، وإذا كنت صاحب عمل فستجد صعوبة فى تأمين العملات الأجنبية لشراء مستلزمات إنتاجك، وستجد نفقة إنتاجك مرتفعة مما يجعل من الصعب تسويقها، وقد تضطر فى هذه الظروف إلى الاستغناء عن بعض العاملين لديك حتى لا تتضاعف خسائرك.
سوف تقولين لى إنى أبالغ فهذه صعوبات مؤقتة وسوف تختفى بتطبيق اتفاق مصر مع صندوق النقد الدولى وربما عودة السياحة وبدء استفادة مصر من حقول الغاز الهائلة التى جرى اكتشافها فى السنتين الأخيرتين.
سأقول إن الاتفاق مع الصندوق ليس مؤكدا إذا لم نحصل على ست مليارات دولار إضافية طلبها الصندوق شرطا لتوقيع الاتفاق معه، وأن عودة السياح إن تحققت سوف تكون تدريجية، وكذلك نفس الأمر بالنسبة لإنتاج حقول الغاز الجديدة، ولكن الأهم من ذلك كله أن نجاتنا من اللجوء إلى صندوق النقد الدولى وشروطه الصعبة رهن بضبط العجز فى موازنتنا، وهو ليس مستحيلا ولكن فى مقابل تضحيات ضخمة برفع الدعم وزيادة تكلفة االمرافق الحكومية من مياه وكهرباء،
كما أنه رهن بأن نقدر على زيادة إنتاجنا الصناعى والزراعى وتجويده ونجاحنا فى تصديره مع خدماتنا بحيث نغطى العجز بين وارداتنا وصادراتنا والذى يبلغ أكثر من عشرين مليار من الجنيهات الشهر الماضى، وحتى يقل اعتمادنا على مصادر دخل غير مؤكدة أو بسبيلها للانكماش مثل دخلنا من السياحة أو تحويلات المصريين فى الخارج.
هل ترون أن زيادة الإنتاج الصناعى والزراعى وتجويدهما وزيادة صادراتنا من الخدمات تحتل مكانة مهمة فى برنامج الرئيس الذى تسعى حكومتنا لتطبيقه، وهل لمشروعات ضخمة مثل إنشاء عاصمة جديدة أو مجمع سياحى ضخم فى جبل الجلالة ما يضعنا على هذا الطريق؟
نعم، مواجهة الصعوبات الاقتصادية ليست أمرا سهلا، ولكن هل يعوضنا عن ذلك ازدهار الديمقراطية فى بلدنا؟ نحتفل هذا العام بمرور مائة وخمسين سنة على بدء الحياة النيابية فى مصر.
هل ترون أعزائى القراء أن سلوك رئيس مجلس النواب مع معارضيه فى المجلس أو عزوف المجلس عن استخدام أدواته الرقابية أو حتى طرح قضايانا الكبرى فى السياسة الخارجية للمناقشة مثل موضوع جزيرتى تيران وصنافير أو عدم تطبيق حكم لازم لمجلس الدولة مما يتفق مع هذا التاريخ العريق؟
***
فى الدول ذات التقاليد الديمقراطية لا يصنف أصحاب المواقف المتباينة على أنهم متفائلون أو متشائمون، ولكنهم جميعا يطرحون قضايا مهمة مفتوحة للنقاش.
وهكذا يجب أن نفعل فى بلادنا، وسوف ندفع جميعا ثمنا غاليا إذا ما استمر القائمون على إعلامنا فى وصف من لا تروق لهم آراؤهم بأنهم ضحايا مؤامرات خارجية. وعلى عكس ما دعت له خالدة الذكر سعاد حسنى لا يجب أن نقفل على كل المواضيع.