أحدث الأخبار
لغز قانون الاستثمار
اعترف بأن قانون الاستثمار صار بالنسبة لى لغزا يصعب تفسيره، وأن إصرار الدولة على تعديله مرة أخرى اعتقادا بأنه سوف يحل مشكلتنا الاقتصادية بات أمرا محيرا، وفى حد ذاته باعثا للقلق.
منذ عام ونصف ــ يوم 12 مارس 2015، استعجلت الحكومة بإصدار قانون استثمار غير مدروس عشية مؤتمر شرم الشيخ الاقتصادى، برغم تحذير الكثيرين من عواقبه.
ودفع البلد ثمن هذا التعجل، إذ بدلا من الاستفادة من الظروف السياسية والاقتصادية المواتية آنذاك لتحقيق طفرة فى الاستثمار، أضعنا الوقت والجهد والمصداقية فى وعود لم تتحقق، وإصرار على تطبيق أحكام قانونية غير قابلة للتطبيق.
ثم حينما سنحت الفرصة أمام مجلس النواب لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، تجاهل الموضوع وأقر هذا القانون المعيب ضمن القوانين الثلاثمائة وأربعين التى قام بمراجعتها فى بضعة أيام.
مع ذلك فقد علت خلال الشهور الماضية من داخل الدولة بعض الأصوات العاقلة تعترف بالخطأ، وتدعو لإصلاح جميع مكونات وعناصر المناخ الاستثمارى التشريعية والاقتصادية والسياسية، بدلا من الاستمرار فى الاعتماد على قانون استثنائى لم يعد مجديا ولا مقنعا للمستثمرين.
ولكن للأسف أن الجبل تمخض فولد فارا. وبعد شهور من الحديث عن قانون استثمار جديد، وبعد إرسال استبيان إلى كبرى الشركات ومكاتب المحاماة والمحاسبة حول ما ينبغى أن يتضمنه، وبعد مزيد من التحذير من جانب الخبراء والمعلقين والمستثمرين، ظهرت أخيرا مسودة القانون على صفحات جريدة «الأهرام» فى عدد الجمعة الماضية، ويا ليتها ما ظهرت.
مرة أخرى نعود للتفكير فى إعفاءات ضريبية بعد أن كنا قد نجحنا فى التخلص منها عام 2005 ومما يصاحبها من تشوهات وتلاعب وفساد، ومرة أخرى نبحث عن منح هيئة الاستثمار سلطة استخراج التراخيص وتخصيص الأراضى لكل المشروعات الاستثمارية فى مصر، برغم استحالة تطبيق ذلك، ومرة أخرى نقسم البلد إلى مناطق استثمارية، وخاصة، وحرة، وحضرية، ونائية، وتنموية، لكل منها نظام وأحكام وإعفاءات بما يزيد من تعقيد وضع معقد بما يكفى، ومرة أخرى تتجاهل وزارة الاستثمار المشكلات الحقيقية التى يعانى منها المستثمرون من جراء اضطراب سوق الصرف، وغموض السياسات الحكومية، وتدخل الدولة فى جميع مناحى النشاط الاقتصادى، وتوغل البيروقراطية والأجهزة الرقابية، وتعتقد أن بالإمكان تعويض كل ذلك بقانون جديد وبحوافز وإعفاءات عفا عليها الزمن.
والحقيقة أن الحديث عن الإعفاءات الضريبية بالذات صار مستفزا للغاية، لأنه لا يستقيم أن تدعو الحكومة المواطنين لسداد الضرائب، وتحمل زيادة تكلفة الطاقة، وغلاء الأسعار، وتحثهم على التضحية والسهر والجوع، ثم حينما يتعلق الأمر بشركات الاستثمار يتم إعفاؤها من ضريبة الدخل لمدد تصل إلى عشر سنوات ومن تكلفة الطاقة بل والتأمينات الاجتماعية.
لماذا نعود إذن إلى ذات الأفكار التى ثبت فشلها؟ ولم لا نستفيد من تجربة العامين الماضيين؟ إليكم ما توصلت إليه لحل لغز قانون الاستثمار.
هناك أولا الفكرة السائدة بأن جذب الاستثمار الأجنبى يحتاج إلى حوافز خاصة وضمانات وإعفاءات وإلا فلن يفكر المستثمر فى المجئ إلى البلد. وهذه فكرة قديمة وغير مجدية فى الزمن الراهن، لأن الاستثمار العالمى صار اليوم يبحث عن مناخ متكامل فيه تشريعات مستقرة، وسياسات حكومية واضحة، وتمويل متاح، وقضاء سريع وعادل، وسوق صرف كفء، وعلاقات عمل متوازنة، وبنية تحتية متطورة، واستقرار سياسى واجتماعى.
فقط البلدان التى لا يتوافر لديها أى مما سبق هى التى تسعى لتعويض هذا النقص بمنح إعفاءات ضريبية وأراض بالمجان وتضحى بمواردها مستقبلا من أجل تحقيق مكاسب مؤقتة.
وهناك أيضا الاعتقاد بأن الإصلاح الشامل لمناخ الاستثمار يحتاج وقتا لا نملكه، وأن الأزمة الراهنة تتطلب سرعة فى العمل وإجراءات عاجلة ونتائج فورية.
وهذا قول حق يراد به باطل. فالأزمة حقيقية وضاغطة، والبلد بحاجة لحلول عاجلة، ولكن ليس كل استعجال فى محله ولا كل تفكير فى إصلاح عميق وشامل بالضرورة عقيم أو بليد. وفى مجال الاستثمار بالذات فلا مفر من الإصلاحات الشاملة لأن ما دفعنا إلى الأزمة الاقتصادية الراهنة هو تراكم القرارات غير المدروسة والاندفاع نحو تحقيق نتائج سريعة والبحث عن إنجازات عاجلة، تكون محلا للتغطية الإعلامية.
هناك كذلك الانحياز الدائم لما قد يشجع المستثمر الأجنبى الكبير على المجىء إلى مصر دون التفكير بجدية فيما يحتاجه المستثمر الوطنى، وما يعانى منه أصحاب المشروعات الصغيرة والمتوسطة، وما يشجع شبابنا العاطل على إيجاد فرصة لدخول حلبة التنافس.
والواقع أن الدراسات المعاصرة فى هذا المجال، تؤكد أن أكثر ما يشجع المستثمر الأجنبى على الإقدام فى بلد غريب هو أن يكون هذا البلد حريصا على مصالح كل المستثمرين لديه أيا كانت جنسياتهم أو مصادر أموالهم أو طبيعة وحجم أعمالهم.
وأخيرا فقد يكون ما يدفعنا لتعديل قانون الاستثمار مرة أخرى هو ضرورة عمل شىء، أى شىء، ولو كان بلا جدوى حقيقية، حتى يكون هناك حوار واجتماعات وحركة وصخب، ولكنه للأسف فى هذه الحالة ضجيج بلا طحين.
أرجو ألا نندفع مرة أخرى فى التفكير فى الحلول والبدء فى تطبيقها قبل أن نكون قد فكرنا بما يكفى فى المشكلة المطلوب حلها، لأن الوضع الاقتصادى لا يتحمل المزيد من التجارب ولا المغامرات.