أحدث الأخبار
عن الشباب المنافق الذى شارك فى الحوار!
السلطة المصرية وكل النخب السياسية والثقافية التى تؤيدها بشكل مطلق هى المسئول الأول عن الأزمات السياسية والاقتصادية والمجتمعية فى مصر، هذا ليس موقفا سياسيا أو افتراضا يحتاج للإثبات العملى أو العلمى، ولكنه حقيقة بسيطة تعبر عن تحميل المسئولية للسلطة الحاكمة ــ أى سلطة حاكمة ــ فى أى زمان ومكان، هو ما يمكن أن نقول عليه ما هو معلوم من السياسة بالضرورة!
لكن هل تقف الأزمة المصرية فقط عند حد تحميل السلطة المسئولية عن الفشل؟
للأسف هناك جوانب أخرى للمسئولية والأزمة، صحيح أنها جوانب تبدو فرعية ومسئوليات تبدو هامشية، لكن بدون مناقشتها لا يمكن أن تكتمل الصورة أبدا!
***
خلال الأيام القليلة الماضية كان العنوان الأكبر فى الفضاء العام هو «المؤتمر الوطنى الأول للشباب»، وهو المؤتمر الذى اتخذ أسماء إعلامية وسياسية أخرى أبرزها «حوار الشباب»، لمدة ثلاثة أيام فى مدينة شرم الشيخ حيث كانت فاعليات المؤتمر تجرى فى ظل تغطية إعلامية مكثفة وتعليقات متنوعة من الرأى العام وكذلك فى ظل انقسامات حادة فى المواقف السياسية بين المشاركين والمقاطعين.
تابعت ما استطعت من جلسات المؤتمر، ولاحظت بشكل عام أنها كالعادة إطار مكرر لتنشئة الشباب سياسيا وحشدهم ثقافيا فى اتجاهات محددة تؤيدها السلطة وتدعمها، لم يكن حوارا حقيقيا بقدر ما كان رسالة من الأجيال الأكبر وشيوخ الشأن العام إعلاميا وسياسيا وثقافيا لتوجيه الأصغر سنا، وعلى الرغم من ذلك فليس كل ما قيل سيئا، بعض المداخلات كانت موفقة وطرحت أفكار جديدة وغير تقليدية، بعض الأصوات كانت معارضة بوضوح، بلا نفاق أو تدليس، تكلم بعض الشباب عن الملف الحقوقى، عن ملفات التظاهر والمحبوسين، عن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وهى أصوات مطلوبة ومهمة ورسائل لابد للسلطة أن تنظر إليها بعين الاعتبار!
نهاية المؤتمر شهدت مجموعة من الوعود الرئاسية أبرزها مراجعة ملف قانون التظاهر، ومراجعة ملف المحبوسين ممن لم يصدر بشأنهم أحكام نهائية، وعود أتلقفها بحذر، فقد علمتنا التجربة مع السلطة الحالية أن ننتظر لنرى التنفيذ قبل الاحتفاء والترحيب!
***
الحوار بشكل عام مطلوب، وهو السبيل الوحيد لتجنب العنف والإرهاب والاستقطابات المجتمعية الحادة، لكن حتى تكون الحوارات مثمرة فلابد أن تكون فى سياقات مختلفة عن السياق الذى جرى، ولكن هل يعنى ذلك أن كل من شارك فى هذا المؤتمر من الشباب منافقا؟
كانت هذه هى الفرضية الرئيسية لبعض المقاطعين، ومارس بعضهم ــ كالعادة ــ أسوأ أنواع الابتزاز والمزايدات فى اتجاه أى محاولة لفهم دوافع بعض الشباب للمشاركة، وفى هذا الإطار يهمنى هنا الإشارة إلى بعض الأسباب التى تدفع البعض للمشاركة ويعجز كالعادة عن فهمها بعض المعارضين فيحولون غضبهم على المشاركين معتبرين إياهم فئة واحدة دون تمييز وبشكل لا يؤدى إلا إلى مزيد من الكراهية للديمقراطية والثورة والتغيير وكل المفردات المرتبطة بالتغيير!
بالإضافة إلى الباحثين عن مكان دائما وأبدا بجانب الأضواء، فضلا عن بعض المهرجين هنا أو هناك، فهناك ثلاث فئات أخرى مختلفة شاركت فى هذا المؤتمر:
الفئة الأولى هى فئة الشباب من طلاب الجامعات أو حديثى التخرج ممن التحقوا بالجامعة بعد الثورة ورأوا صعود وهبوط المشهد المصرى بكل تفاصيله المؤلمة، بعض هؤلاء من مؤيدى الثورة وبعضهم من كارهيها لا لمصالح أو امتيازات ولكن لأنهم لم يروا منها سوى عدم الاستقرار والخوف والفزع.
لا يهم إن كان تلك المشاعر تم تضخيمها بواسطة الإعلام أم لا، المهم أن هذا هو ما وصل إليهم واستقر فى وجدانهم! ثم هناك فئة ثالثة مرتبكة بخصوص الأمر ولا تعرف تحديدا كيف تؤسس موقفها تجاه الثورة، وهؤلاء قرروا تجاوز الأمر برمته والتطلع إلى المستقبل.
ليس لدى هذه الفئة الكثير من الخبرة وبكل تأكيد حينما يتم دعوتهم إلى المشاركة فى حوار مع الرئيس والسلطة فيكون لديهم رغبه للاستطلاع والتجربة ولا يمكن لوم أىٍّ منهم على ذلك.
أما الفئة الثانية، فهى شباب الأحزاب من السياسيين المعارضين الذين يرون أن السياسة هى عبارة عن فرص، وأن اغتنام هذه الفرص من أجل الضغط أو التشبيك أو صنع أطر ممكنة للإصلاح هو أمر يستحق بذل الوقت والجهد، يرى هؤلاء أن «نصف العمى» أفضل من كله، وأنه وفى ظل عدم توازن القوى بين المعارضة والسلطة، فإن رفض الحوار أو المشاركة يكون من قبيل الانتحار السياسى لأنه يعنى انفصالا تاما عن كل قضايا الواقع الذى يمكن تغييره ولو بشكل تدريجى أو بطىء.
بغض النظر عن أن حسابات هؤلاء قد لا تكون بالضرورة صحيحة وأن فرص الإصلاح من الداخل أو عبر الحوار تبدو فى رأيى محدودة للغاية على الأقل فى ظل الأوضاع الراهنة، وأن النتائج (على الأقل فيما مضى) كانت سلبية ولم تؤدِ إلا إلى المزيد من الحرق السياسى للعديد من الأوجه الجديدة، ولكن أليس من حق هؤلاء خوض التجربة وتشكيل وعى سياسى خاص بهم والذى هو خلاصة تجارب عملية يخوضونها بأنفسهم؟ أليس من حقهم أن يكون لهم حرية القرار أم أن بعض منظرى الحرية لا يرى فى الحرية سوى رأيه هو وحريته هو فقط؟!
ثم تأتى الفئة الثالثة للمشاركين من الفئات غير المسيسة فى المجتمع، تلك الفئات التى تصارع من أجل أوضاع اجتماعية واقتصادية أفضل، هؤلاء لا يجدون فرصة كافية فى التنظيمات السياسية القائمة معارضة كانت أم مؤيدة، يبحث بعضهم عن صرف صحى أو مياه أو عيشة آدمية فى ظل أوضاع بالغة السوء، وحينما جاءتهم الفرصة للمشاركة فإن بعضهم قد وقف ليقول مطالبه الأساسية بهذه البساطة دون تزيد أو تكلف فماذا يضير هؤلاء من المشاركة؟
***
الإصرار على عدم فهم دوافع التأييد أو المعارضة، المشاركة أو المقاطعة، التجربة والخطأ هو من علامات المراهقة السياسية والثورية، أولئك المتضخمون ذاتيا ممن يصرون على سردية واحدة ويصنعون من تلك السردية فزاعة أخلاقية لكل من يخالفها أو يحاول أن يتخذ موقفا مختلفا عن موقفهم، إنما يفعلون ذلك من فرط الفراغ والسطحية والفوقية والانعزال عن فهم تعقيدات الواقع!
إن مواقف بعض مطالبى التغيير ما لم تكن أكثر مرونة وبراجماتية سياسية، ما لم تؤسس على فهم الواقع، ما لم تتوقف عن ممارسة الفوقية الأخلاقية، ما لم تعتزل عالم الابتزازات والمزايدات السياسية الرخيصة فإنها ستكمل موتها البطىء وخسارتها المؤكدة ليس فقط لقضايا التغير العامة (الديمقراطية، الحرية، الحقوق..الخ)، ولكنها ستخسر حتى قدرتها على التشبيك وعلى جذب التأييد من العامة والخاصة، بل وحتى من أقرب أقربائهم الذين أصبحوا يلفظونهم ولكن أصحابنا يأبون الاعتراف!
الحوار الوطنى للشباب هو فى رأيى إطار مكرر للحشد والتأييد وإيقاف نزيف خسارة السلطة لجماهيرها المؤيدة، والوعود التى خرج بها المؤتمر تظل واعدة على مستوى الصياغة، لكن لا يمكن الاحتفاء بها قبل أن تتحول إلى واقع معيش ولا تتحطم على صخور اللجان واللجان التى تنبثق عن اللجان وهكذا حتى تضيع تماما ثم يعود البعض ليحدثنا عن الظروف الاستثنائية لتبرير خلف الوعود!
***
لكن فى خضم كل ذلك فللجميع الحرية فى اتخاذ المواقف السياسية التى يرى أو يعتقد أنها قد تغير من ظروف معادلة القوى أو السلطة فى مصر، أقول للشباب أنتم فى حل من التقيد بالسردية الثورية، أنتم فى حل من التكبل بمواقف ممانعة هنا أو هناك، أنتم فى حل من الالتزام بوصايا أخلاقية أو سياسية باسم يناير أو غيرها، خوضوا تجاربكم بنفسكم واصنعوا وعيكم وسرديتكم من تجاربكم أنتم لا من تجارب الآخرين ولا تقبلوا أبدا أن يأخذكم البعض رهائن لفشله وفشل تجربته، لكن اعلموا فى النهاية أن كل موقف سياسى تقابله مسئولية سياسية واجتماعية، وهكذا هى الحياة عموما اجتهاد وتجربة وخطأ وقبل كل ذلك مسئولية.