أحدث الأخبار
تعطيل الجمعيات الأهلية هو الذى يهدد الأمن والاستقرار
كنت أتصور، فى ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التى يمر بها البلد، أن تبادر الدولة إلى التخفيف من القيود المفروضة على الجمعيات والمؤسسات الأهلية التى تساعد ملايين المواطنين من خلال ما تقدمه من معونات وخدمات تعجز الدولة عن الوفاء بها.
ولذلك ففى ظل الزيادات الأخيرة فى أسعار الكهرباء، وضريبة القيمة المضافة، وتحرير سعر الصرف، وزيادة أسعار الطاقة، وأزمات السكر والأرز والدواء.
ومع استمرار التوقعات بارتفاع الأسعار فى الفترة المقبلة، فإن التصرف المنطقى الذى كان متوقعا هو أن تشجع الدولة تلك الجمعيات والمؤسسات على أداء مهامها وتزيل جميع العوائق التى تعترض طريقها بما يساهم فى تخفيف الأعباء عن المواطنين.
ولكن بدلا من ذلك فوجئ الجميع، بما فيهم الحكومة، بمشروع قانون للجمعيات الأهلية يتقدم به عدد من نواب البرلمان دون ان يَسْمَع عنه احد، وإذا بمجلس النواب يقره بسرعة البرق، ويحيله إلى مجلس الدولة للمراجعة القانونية تمهيدا لإقراره النهائى من البرلمان ثم التصديق عليه من رئيس الجمهورية.
وهذا كله بينما وزارة التضامن الاجتماعى مشغولة بمناقشة مشروع قانون آخر مع منظمات المجتمع المدنى.
وبدلا من مساندة الجمعيات وإزالة العوائق من طريقها فإن هذا القانون «الشبح» قد جاء ليضع قيودا وعراقيل غير مسبوقة أمامها، بما يهدد بوقف نشاط الكثير منها أو تجميده، ويصيب النشاط الأهلى بحالة من الشلل والغموض على مستقبله.
ونظرا لأننى عبرت فى مقال الأسبوع الماضى عن أوجه انتقادى لهذا القانون، فلن أكررها مرة أخرى، وأكتفى بالتذكير بأن هذا القانون ــ وللمرة الأولى ــ يجعل حصول الجمعية على تمويل او تبرع من المصريين رهنا بموافقة مسبقة من أجهزة الدولة أسوة بالتمويل الأجنبى، كما أنه يضع أعضاء مجالس ادارة الجمعيات جميعا تحت رحمة قانون الكسب غير المشروع الصادر فى الستينيات لحماية أموال الدولة من الفساد ولا شأن له بالمجتمع المدنى القائم على التطوع والتبرع.
الذى يقال فى تبرير صدور هذا القانون هو أن هناك جمعيات تتلقى تمويلا من الخارج وبالتالى تمثل تهديدا للأمن القومى، وأن جمعيات أخرى تتبنى قضايا قانونية واجتماعية على نحو يهدد استقرار البلد.
وبمنطق سد الباب الذى يأتى منه الريح، فالأضمن وضع سياج حديدى حول كل الجمعيات، حتى تلك التى لا تتلقى تمويلا من الخارج ولا شأن لها بالحقوق والقضايا الاجتماعية.
ولكن الواقع أن النتيجة الوحيدة الأكيدة من هذا الأسلوب فى التعامل مع المجتمع المدنى هى تقييد حرية العمل الأهلى برمته وتهديد نشاط عشرات الآلاف من الجمعيات العاملة فى كل مجالات الخدمات الطبية والتعليمية وفى محو الأمية وتمويل المشروعات الصغيرة ورعاية اليتامى وعلاج المدمنين وتوزيع السلع الضرورية وتشجيع الاستثمار وتكريم الموتى، وذلك كله لمجرد أن الدولة تخشى بضع عشرات من الجمعيات الحقوقية برغم ترسانة القوانين والإجراءات والعقوبات التى فى جعبتها والمقيِّدة بالفعل للنشاط الأهلى حتى قبل صدور هذا القانون الجديد.
والسؤال الذى أطرحه هو التالى: إذا كان الغرض من القانون الجديد هو الحفاظ على الأمن القومى وحماية استقرار البلد، فهل يكون ذلك عن طريق تنظيم نشاط المؤسسات الأجنبية والتمويل الأجنبى تنظيما متوازنا يحافظ على متطلبات الأمن القومى من جهة ويشجع النشاط الأهلى من جهة اخرى؟ أم بالانقضاض على المجتمع المدنى بأكمله دون تقدير للعواقب الخطيرة لذلك على الملايين من الفقراء والمحتاجين والمستفيدين من خدماته؟
ولنتذكر أن الدولة، فى ظل الأوضاع الاقتصادية الراهنة، تسعى إلى بناء شبكة حماية اجتماعية ولزيادة المعاشات والتأمينات الرسمية من موارد الخزانة العامة المحدودة للغاية، فكيف يصدق أو يعقل أن تتعمد فى ذات الوقت إلغاء شبكة الحماية الموازية والأكثر فاعلية التى يتيحها المجتمع المدنى وبموارده الذاتية التى لا تؤثر فى موازنة الدولة ولا تنتقص منها، والذى يتجه بطبيعته إلى مناطق نائية وعشوائية تغيب عنها الدولة، ويسد عجزا لا تقدر عليه الحكومة، ويتيح فرصا لمن لا بديل لهم، ويملأ فراغا خطيرا يمثل فى كثير من الأحيان الفارق بين الحياة الكريمة والموت البطىء.
مع ذلك فلا تزال هناك فرصتان لتصحيح هذا الوضع الخطير: الأولى أن يبادر مجلس الدولة بإبراز ما فى القانون الجديد من تناقضات قانونية ومخالفات وتعارض مع الدستور بل مع المنطق والعدالة ليتدارك أعضاء البرلمان الأمر.
أما الفرصة الثانية فهى أن يستخدم السيد رئيس الجمهورية الصلاحية الدستورية التى يتمتع بها ويرد القانون إلى المجلس مرة أخرى لكى يعيد النظر فيه ويفتح حوارا مجتمعيا حقيقيا بشأنه.
ولكن هذا كله يحتاج لموقف واضح وصريح ليس من جانب الأحزاب السياسية والجمعيات الحقوقية وحدها، بل من جانب كل من يهمه مستقبل النشاط الأهلى فى مصر والدور الذى يقوم به فى المجتمع ومن جانب المستفيدين منه والعاملين فيه.
أما السكوت على القانون الجديد فهو ما يهدد الدولة وأمنها واستقرارها.