أحدث الأخبار
فطرة الإحساس بالمجهول
بعد أكثر من عشر سنوات على رحيل «نجيب محفوظ» ارتفعت أصوات شاردة تحت قبة البرلمان المصرى تطالب بمحاكمته على مجمل أعماله التى تخدش الحياء العام، وربما الدفع به خلف قضبان السجون لو أنه على قيد الحياة.
الكلام بنصه لا يستند على أى قراءة نقدية لمجمل أعمال الروائى العربى الأهم فى العصور الحديثة، ولا تتوافر أى شواهد على أن أصحابه قرأوا رواية واحدة لـ«نجيب محفوظ»، أو غيره من روائيين مصريين وعرب خرجوا من تحت عباءته.
كما يقال عادة فإن «الجهل ملة واحدة»، فالأصوات التى شردت تحت القبة لا تفرق كثيرا عن الأصوات التى أفتت بقتله.
باعتراف من حاول اغتياله بسكين بعد حصوله على جائزة «نوبل» للآداب، فإنه لم يقرأ عملا واحدا لـ«نجيب محفوظ».
وفى كلام من انتهكوا قيمته بسكين آخر ما يثبت أن معرفتهم بأدبه تتوقف عند ما شاهدوه من أفلام تجارية مأخوذة عن رواياته.
تلك الأعمال السينمائية ــ كما يعرف نقاد الأدب ــ لا تمثل عمق فلسفته فى التاريخ والحياة وحركة البشر بكل ما فيها من تراجيديات كثلاثيته الشهيرة، التى تعد واحدة من أعظم الأعمال الروائية فى التاريخ الإنسانى.
الكلام برسالته يومئ إلى تدهور تتسع خطورته فى النظر إلى الثقافة وتجلياتها فى الآداب والفنون والفلسفة والعلوم الإنسانية الأخرى.
أى عمل ثقافى فهو سياسى بالمعنى العريض الذى يدخل فى حياة كل مواطن.
الفصل بين السياسى والثقافى تجهيل بالحقائق الأساسية.
الثقافة فى جوهرها تكسب الأمم والشعوب شخصيتها وهويتها ومناعتها وقدرتها على الدفاع عن قضاياها وحقوقها.
لا هى حلية زينة ولا سلعة استهلاك.
لهذا السبب استوقف الكلام بالتفلت منابر ثقافية وصحفية فى العالم وجدت فيه ما يدعو إلى الرثاء.
بلا ثقافة تشع وتؤثر وتلهم وترفع منسوب الذائقة العامة، فإن حركة المجتمع مهددة بالعمق دون أى مصدات تحمى وتصون.
بمعنى آخر فإن خبل الكلام عن «نجيب محفوظ» وأدبه لا يعنى نفى خطورة رسالته.
لم يكن هناك احتجاج يعتد به تحت قبة البرلمان، كأن شيوع الجهل يعدى.
ولا نددت أى جهة رسمية، بما فيها وزارة الثقافة، ولا تحركت جماعات المثقفين لوضع الأصوات الشاردة فى قفص الاتهام أمام الرأى العام.
فى شبه الصمت المطبق حالة انكفاء للثقافة والمثقفين وحالة أخرى من التراجع فى حيوية الحركة العامة بالمجتمع.
أرجو أن نتذكر الدور الجوهرى الذى لعبه المثقفون، وبعضهم روائيون كبار من تلاميذ «نجيب محفوظ» مثل «بهاء طاهر» و«صنع الله إبراهيم» و«جمال الغيطانى» و«يوسف القعيد» و«إبراهيم عبدالمجيد» و«علاء الأسوانى» و«فتحية العسال«، فى التمهيد لـ(٣٠) يونيو طلبا للدولة المدنية الديمقراطية الحديثة، وهو طلب منصوص عليه فى الدستور لكنه يكاد أن يسحق بغطرسة الجهل.
مما هو منذر أن يضيق المجال العام عن حيوية الإبداع وحرية التفكير وفق القواعد الدستورية لا أهواء نواب يشرعون لمصادرة العمل الأهلى باسم «الأمن القومى»، بينما ما يحفظ هذا الأمن أن تأخذ حركة المجتمع مداها فى توفير ما تعجز عنه الدولة من خدمات صحية وتعليمية فى المناطق الفقيرة أو النائية.
بالأرقام: هناك ما يقارب الـ(٤٩) ألف جمعية أهلية.
حصار العمل الأهلى التطوعى يرادف بالسياق الاستهتار بالإرث الثقافى والأدبى ملخصا فى «نجيب محفوظ».
لم تكن مفارقة مواقيت تزامنت بقدر ما عكست أجواء سلبية أخذت من البرلمان ما تبقى له من اعتبار.
أهمية البرلمانات تقاس، قبل مهمتيها الرئيسيتين فى التشريع والرقابة على أعمال السلطة التنفيذية، بمدى ما تنفتح على حركة مجتمعها لا بما تغلقه من نوافذ.
بمعنى آخر، الأجواء قبل التشريعات، فلا قيمة لأى قانون إذا لم تكن البيئة العامة تحترم دولة القانون وتسودها القواعد الدستورية.
على ما يرى جمهرة أساتذة الاقتصاد ومجتمع الأعمال فإن بيئة الاستثمار أهم من قانون الاستثمار.
وعلى ما يرى أغلبية الصحفيين والإعلاميين فإن بيئة الحرية أهم من قانون الإعلام الموحد التى توجد شكوكا لا يستهان بها فى احتمالات التلاعب بنصوصه عند عرضه المنتظر على البرلمان.
للقوانين عندما تتسق مع تطلعات مجتمعها أهمية حاسمة غير أن البيئة العامة أساس كل تقدم واثق الخطى إلى المستقبل.
العدوان دون رد على إرث «نجيب محفوظ» يسحب على المفتوح من مصادر «القوة الناعمة» فى مصر.
بحكمة الزعيم الهندى التاريخى «جواهر لال نهرو»: «فقدان الناس لثقافتهم قد يتم بلا صخب ودون أن يشعروا، لكن السلاح عندما يتحرك يثير ضجة تنبه الآخرين إلى أنهم معرضون لتهديد النار» .. كما روى فى منزله بنيودلهى للأستاذ «محمد حسنين هيكل» فى النصف الثانى من خمسينيات القرن الماضى.
شىء من ذلك الفقدان تبدت مخاوفه تحت قبة البرلمان دون أن يثير ذلك التفاتا جديا.
«من أين تأتى الشاعرية؟ من ذكاء القلب، أم من فطرة الإحساس بالمجهول؟»
هكذا لخص الشاعر الفلسطينى «محمود درويش» أحد أوجه الإبداع الأدبى والفنى.
ننسى ــ أحيانا ــ أن المبدع الموهوب يرى ما لا يراه السياسى المحنك، فهو ــ كزرقاء اليمامة فى التراث العربى ــ ينظر خلف الأفق بفطرة الإحساس بالمجهول.
فى يوم (٢٢) يوليو (١٩٥٢) كتب الشاعر «كامل الشناوى» على صفحات «أخبار اليوم» مقالا عنوانه: «أين الرجل؟».
توقع أن شيئا دراماتيكيا سوف يحدث على المسرح السياسى المصرى، وقد أجابت الأحداث عنه صباح اليوم التالى بحركة «الضباط الأحرار».
وفى يونيو (١٩٧٠) كتب «يوسف إدريس»، الأديب العربى الأبرز فى فن القصة القصيرة، على صفحات «الأهرام» رائعته «الرحلة» التى تنبأ فيها برحيل «جمال عبدالناصر».
لم تمض أربعة أشهر حتى صادقت الأيام على ما كتب متوحدا وباكيا ومنتقدا زعيم يوليو.
وقد انطوت أعمال «نجيب محفوظ» على نبوءات مماثلة عن انهيار ما قد يحدث ــ كما فى «ثرثرة فوق النيل» (١٩٦٦) و«ميرامار» (١٩٦٧).
بذات القدر حذر مسرح الستينيات، الذى يوصف بالذهبى، مما هو قادم، كما فى «السلطان الحائر» لـ«توفيق الحكيم» و«سكة السلامة» لـ«سعد الدين وهبة» وأعمال مماثلة لـ«نعمان عاشور» و«محمود دياب»، وكتاب آخرون أغلبهم ينتمون إلى تجربة يوليو ومؤمنون بها.
إن أى مجتمع رشيد يحتاج إلى اتساع أفقه على الحوار وتأكيد قدرته على التصويب، فضلا عن احترام إرثه الثقافى وقدرته على رفع شأن الآداب والفنون ـ وهذه مسألة حريات عامة يضمنها الدستور.. أما الحط من «فطرة الإحساس بالمجهول» فنتائجه وخيمة.
نقلا عن الشروق.