أحدث الأخبار
مواجع البحث العلمى فى مصر
التناقض بين الخطاب الرسمى عن البحث العلمى وممارسات أجهزة الدولة وموقف المجتمع من ناحية وواقع البحث العلمى فى مصر ــ تناقض صارخ إلى أبعد الحدود. تناقض يلمسه بكل تأكيد العلماء المنشغلون بالعلوم الطبيعية والتطبيقية والعلوم الاجتماعية والإنسانيات على حد سواء فى التمويل المحدود للبحث العلمى فى مصر مقارنة بغيرها من الدول مثل كوريا الجنوبية والصين وإسرائيل. وإذا كنا يمكن أن نتفهم التحجج بإمكانيات الدولة المحدودة التى لا تعينها على زيادة الإنفاق على البحث العلمى بفروعه المختلفة، والتى يدعو الدستور إلى تخصيص نسبة لا تقل عن 1% لدفعه، وهو ما جرى تجاهله مع نصوص أخرى فى الدستور، فلم يتحقق حتى الآن، فإنه ليس من المفهوم لماذا تحارب الدولة الجهود الخاصة التى يقوم بها علماء فى فروع مختلفة من العلوم الاجتماعية لتنشيط البحث فى مجالاتها. وبالبحث عن مصادر أخرى للتمويل، خصوصا وأن البحث العلمى الجاد يتم عن طريق الفرق العلمية، وهو يقتضى إنفاقا عليه لا يمكن أن يخرج من جيوبهم لضآلة مرتباتهم التى لا يمكن أن تكفى لشراء مستلزماته.
وقد كان هناك زمن ليس بالبعيد نشطت فيه مراكز جامعية وخاصة فى تعويض النقص فى هذا المجال، واقتحمت ميادين جديدة، وعمقت من الفهم للتحديات التى تواجه المجتمع، وأثرت النقاش العام، ثم توارت هذه المراكز، إما أنها اختفت تماما، أو أنها مازالت قائمة، ولكن لم تعد تنشغل بالبحث العلمى إلا لماما. كانت جامعة القاهرة تحتفى وتفخر بمراكز رائدة فى الدراسات الآسيوية ودراسات الدول النامية والدراسات الأوروبية والبرلمانية، وظهر خارج الجامعة المركز الإقليمى للدراسات الإستراتيجية، ومركز شركاء التنمية وغيرها. كل هذه المراكز اختفت تماما أو تكاد.وهناك مراكز أخرى باقية ولكنها تصارع للاستمرار، وصار إنتاجها البحثى محدودا وضئيلا ولا يضيف كثيرا إلى رصيد المعرفة المتراكم فى مجالاتها، وأتحرج من ذكر أسماء هذه المراكز، ولن يصعب على العاملين بالبحث الاجتماعى تسميتها، كما أن معظمها معروف للمنشغلين بالهم العام.
***لماذا اختفى بعض هذه المراكز، وتوارى نشاط بعضها الآخر؟. السبب الرئيسى هو ضعف التمويل الحكومى ثم الصعوبات المتزايدة فى الحصول على ما يعوض نقص التمويل المحلى أو عدم وجوده أصلا. وقد يقال إن هناك أسبابا أخرى لأزمة هذه المراكز، هذا صحيح ولكن بعضها يعود أيضا إلى نقص التمويل. ولكن وراء نقص التمويل عدم تقدير الدولة والمجتمع لأهمية الدور الذى تقوم به هذه المراكز فى تعميق الفهم لأسباب الأزمات الكبرى التى تواجه المجتمع، وطرح البدائل حول كيفية مواجهتها.
يجب أن يكون معروفا للرأى العام أن المصدر الرئيسى لتمويل كل هذه المراكز، الجامعى والخاص لم يكن أموالا حكومية، ولكنه كان بالأساس تمويلا أجنبيا، غربيا فى الغالبية الساحقة من الحالات. والذى يجب أن يكون معروفا وبنفس الدرجة من الوضوح أن هذا التمويل كان يمر من خلال مؤسسات الدولة، ولا يصل إلى هذه المراكز قبل أن تعرف به وتوافق عليه وزارة الخارجية ومن ورائها المؤسسات الأمنية المختلفة سواء ما يشتغل منها بالأمن الداخلى أو الأمن الخارجى، والأمر الثالث أن مالية هذه المراكز تخضع للمحاسبة والمراقبة من جانب المؤسسات التى تنتمى إليها، أو من جانب الجهاز المركزى للمحاسبات ضمن مراجعته لمصادر إيراداتها وأوجه إنفاقها.
ماذا كان موقف الدولة من هذه المراكز جميعها، سواء ما يشتغل منها بالعلوم الطبيعية والتطبيقية أو العلوم الاجتماعية والإنسانيات. كان على هذه المراكز أولا أن تفى بجميع الالتزامات الضريبية شأنها شأن كل المؤسسات الحكومية بدفع 20% من المرتبات المنصرفة للعاملين فيها وللباحثين فى مشروعاتها كضريبة دخل، ثم شاءت وزارة المالية فى أواخر تسعينيات القرن الماضى أن تفرض عليها كصناديق خاصة ما كان فى البداية 30% من إجمالى إيراداتها، نجح الدكتور مفيد شهاب عندما كان وزيرا للتعليم العالى وقتها فى خفضها إلى 15%. وقد حاولت لقاء وزير المالية الذى فرض هذه الضريبة لإقناعه بأن ذلك كثير على مراكز لا تقدم الحكومة لها مليما واحدا لمعاونتها، وفشلت هذه المحاولات، فكتبت عن ذلك فى صحيفة الأهرام، وطبعا لم تكن هناك أى استجابة. ولكن الأدهى من ذلك أنه بالإضافة إلى هذه الجباية والرسوم التى تحصلها الكليات والجامعات من هذه المراكز، فكان عليها أيضا أن تحول إلى الخزانة العامة 50% مما يتبقى فى ميزانياتها عند نهاية العام المالى، علما بأن مشروعاتها البحثية، إذا كانت مشروعات جادة، فإن تنفيذها يستغرق أكثر من عامين، وهو ما يعنى استحالة تنفيذ هذه المراكز لمشروعاتها العلمية على النحو الذى كانت ترتئيه عندما خططت لهذه المشروعات. ولذلك قاومت المراكز البحثية الجامعية فى أواخر التسعينيات وبداية القرن الحالى هذه الجباية غير المبررة. والعجيب أن أثرى هذه المراكز، وهى تحديدا التابعة لكليات الهندسة والطب والزراعة نجحت فى مقاومتها بفضل تضامن عمداء كلياتها معها، بينما وقف عمداء بعض الكليات ذات المراكز الأقل ثراء موقف الحريص على طاعة وزارة المالية، ولكن كان ذلك لأسباب تعود إما إلى مطامح سياسية، أو خصومة مع بعض مديريها.
***ماذا كانت نتيجة ذلك؟ طبعا شعر القائمون على هذه المراكز بالإحباط نتيجة هذه الجباية غير المبررة بل والضارة بالنشاط البحثى، ولم يكن هذا الإحباط بسبب ضيقهم من انخفاض الدخول الإضافية التى كانوا يحصلون عليها بسبب تحملهم مسئولية إدارة هذه المراكز، ولكن أسباب الإحباط كانت تعود إلى الجهد الهائل الذى كان هؤلاء المديرون يبذلونه لمجرد الحصول على تمويل لأنشطتهم من الجهات المانحة ثم يذهب معظم ما حصلت عليه هذه المراكز لوزارة المالية التى لا تدعمهم على أى نحو اصلا. ولكن كانت النتيجة الأسوأ هى أن هذه القصة التى ذاعت فى الأوساط الجامعية أثنت الكثيرين من الأساتذة القادرين والمتميزين على السعى لقيادة هذه المراكز بكل ما يكتنف عملها من صعوبات ومضايقات. وانتهى الأمر مثلا فى جامعة القاهرة بقرارها إغلاق المراكز التى لا تستطيع الحصول على تمويل يكفى لتغطية أنشطتها.
ومع ذلك جاهدت بعض هذه المراكز للاستمرار، وكانت المراكز البحثية الخاصة أوفق حظا نسبيا لأنها نجت من ضريبة الصناديق الخاصة، ولم يكن عليها أن تحول نصف ما يتبقى فى ميزانيتها فى نهاية العام إلى وزارة المالية. ولكن هذا الامتياز لم يدم طويلا فمع الحملة بعد ثورة يناير فى ظل المجلس الأعلى للقوات المسلحة على ما يسمى التمويل الأجنبى لمؤسسات المجتمع المدنى، أحاطت الشبهات بعمل كل هذه المؤسسات، رغم أن مؤسسات الدولة كانت تتلقى التمويل لأنشطة مشابهة ومن نفس الجهات المانحة التى اتهم بعضها بالتآمر على مصر، وصدرت أوامر بالقبض على بعض العاملين فيها، ومنهم المؤسسات الألمانية التى أثارت المستشارة الألمانية قضيتها مع الرئيس عبدالفتاح السيسى فى زيارتها الأخيرة لمصر الأسبوع الماضى، وفضلا على ذلك أصبحت وزارة الخارجية وأجهزة الدولة المعنية من ورائها تماطل كثيرا فى الموافقة على التمويل المقترح لمؤسسات المجتمع المدنى بما فى ذلك المراكز البحثية الخاصة.
لقد واجه هذه الأوضاع شركاء التنمية للبحوث والاستشارات والتدريب، أحد هذه المراكز البحثية الخاصة الذى شرفت بإدارته بعد انتهاء فترة إدارتى لمركز شبيه بجامعة القاهرة وبذلنا المستحيل مع زملائى للتغلب عليها، وقمت شخصيا بالاتصال ولقاء عدد من كبار رجال الأعمال المصريين وشرحت لهم رسالة الشركاء الذين لا يتقاضون مالا لقاء إدارتهم لنشاط بحثى أثمر على مدى اثنتى عشرة سنة قرابة عشرين كتابا تغطى قضايا التعليم وصنع القرار فى مجال التنمية والبعد المؤسسى للتنمية فى مصر والأرض ومشكلة السكن وظاهرة التغير المناخى والسياسات العامة لمكافحة الفقر وغيرها فضلا عن عشرات الكراسات التى تقدم للقارئ خلاصة المناقشات التى نظمها الشركاء مع أفضل عقول مصر فى محفل عام كان تدريبا على الممارسة الديمقراطية. ولكن لم تثمر هذه الجهود أى نتيجة على الإطلاق، كما كان ذلك مصير السعى للحصول على دعم لأنشطة الشركاء من جانب أكبر البنوك العامة فى مصر. ولم يكن الدعم المحدود الذى قدمته وزارة التعاون الدولى على عهد وزيرتها السابقة كافيا لقيام الشركاء بأى نشاط جديد، لذلك قرروا وقف نشاطهم فى الوقت الحاضر.
***اختفاء المراكز البحثية العاملة فى مجال البحث الاجتماعى أو تعثر نشاطها سواء كانت مراكز جامعية أو مراكز مجتمع مدنى هو خسارة مؤكدة للمجتمع الذى يصبح محروما من دراسة متعمقة لمشاكله، ومن تبصير بالبدائل المتعددة لمواجهتها، ومن إثراء للنقاش العام حولها، وعليكم أن تتأملوا ماذا ستكون عليه مواجهتنا للإرهاب لو أن الدولة رحبت بنشاط هذه المراكز، ووفرت لها المعلومات الضرورية لتقدم لها اقتراحات بما يجب عمله للتعامل الناجح مع هذه الأزمة، ولو أن الدولة استعانت بهذه المراكز فى تحديد شروط نجاح أى مشروعات قومية؟ ألم نكن سنتجنب إهدارا للموارد وإضاعة للجهود؟. ولكن إن مصير هذه المراكز البحثية ليس منفصلا عن السياق العام المحيط بها، وهو التضييق المتزايد للمجال العام سعيا للإغلاق الكامل له.
المقال منشور في صحيفة الشروق بتاريخ الاثنين 6 مارس 2017.