أحدث الأخبار
زيارة إلى أبطال مصر ضحايا الإرهاب
حاولت جاهداً التهرب من التزام كنت أراه التزاماً وطنياً تجاه مصابي القوات المسلحة الذين فقدوا أعضاء من أجسادهم أو أُصيبوا بعاهات مستديمة. كنت أشعر أن كل كلمات المواساة والشكر والعرفان لا تكافئ قيمة ما قدموه للوطن من تضحيات. في الطريق إليهم أخذت أُدرب نفسي على كلمات منمقة مرتبة محاولاً أن تخرج مني بشكل مناسب، فما أعظم ما قدموه للوطن. جهزت جملاً كثيرة مثل: "أنتم شرف للأُمة".. "كلنا فخورون بكم".. "لولا تضحياتكم لما نعمت مصر بأمنها".
فور دخولي، وجدت جمعاً من الإعلاميين والمفكرين والفنانين تلقوا دعوة مثلما تلقيت. قرأت في وجوههم محاولات قاموا بالتدرب عليها مثلما كنت أُدرب نفسي. قررت أن أتوارى وسطهم وألا أتقدمهم في أي مشهد. و يبدو أن قراري كان قراراً اتخذه بعضهم مثلي.
بمجرد دخولنا أول غرفة، وجدنا رجالاً يستقبلوننا بابتسامات وترحيبات أزالت كل مخاوفنا وشعرنا أننا نحن المصابون وليس هم. أخبرونا أن ما لحق بأجسادهم من إصابات ليس كثيراً على الوطن. تمنوا لو يعودون فيضحون غير عابئين بأي إصابة بل إنهم تمنوا لو يجاهدون حتى يلاقوا الشهادة في سبيل أمن الوطن واستقراره.
شجعتني روحهم على التقدم والاقتراب والتحدث إليهم فإذا بهم يروون قصصاً ولا أروع عن تضحيات زملائهم وعن أسباب إصاباتهم. حكايات لم أسمع شبيهاً لها إلا من أبطال الجيش المصري الذين عاصروا حروب النكسة والاستنزاف حتى نصر أكتوبر المجيد. حكايات يمكنها أن تكون مادة خام مُلهمة لكتاب الروايات والسيناريوهات السينمائية والتلفزيونية.
أحمد كامل، جندي مقاتل من محافظة الأقصر خريج كلية الحقوق، كان يقوم مع زملائه بتمشيط أحد المواقع فعثر على عبوة "لغم" كبيرة استطاع فصلها وإبطالها، لكنه ورفاقه لم ينتبهوا لعبوة صغيرة جداً انفجرت فأصابته إصابات بالغة الضرر قد تتسبب في عدم عودته للخدمة مرة أخرى. بعد أن سرد حكايته قلت له الحمد لله على كل شيء، فرد علي قائلاً: الحمد لله أنني وجدت العبوة الكبيرة، وإلا كان زملائي في عداد الموتى.
الملازم أول مقاتل أحمد محمد من محافظة أسيوط، والذي أصيب في انفجار بـ"كرم القواديس"، بدأ سرد حكايته ممازحاً لنا قائلاً: شهدت انفجارات كثيرة وكنت أطير في الهواء وأسقط بلا خدش واحد، وفي أحد الانفجارات كنت أنا الناجي الوحيد. ويوم إصابتي كنا قد قتلنا 4 مسلحين، وأثناء تمشيط المكان انفجر برميل متفجرات أسفل المدرعة التي كنا نستقلها وتعرضت للإصابة التي تسببت في بتر أحد أعضائي.
الحكايات كثيرة لا مجال لسردها هنا، لكن الروح التي قابلونا بها كشفت عن عمق إيمانهم بواجبهم تجاه وطنهم غير عابئين بما يمكن أن تؤول إليه الأُمور. فما نالهم من إصابات لا يوازي نُبل رسالتهم التي تقتضي حماية الوطن.
أثناء انصرافنا تحدثت مع بعض الأصدقاء من ضيوف هؤلاء الأبطال عن تحديات مواجهة الإرهاب، فوجدتنا متفقين على أن الإرهاب يتجمل في صورة شيخ تقي يحمل أفكاراً عدوانية يقول إنها الإسلام وإنه يعمل بتعاليم القرآن وأوامر الله ورسوله .
قلنا إن هؤلاء المُدعين يعتمدون على تأثير الدين في عقول وثقافات شعوبنا التي لا تعلم إلا النذر اليسير من الإسلام وتعاليمه، ولذلك ستظل مفرختهم تنتج الكثير من العناصر المتبنية لمبادئ التكفير والهجرة، ما لم يتم وقف تمدد تلك الأفكار.
قلنا إن الفكر يجب مواجهته بالفكر، والعنف يجب دراسة أسبابه. يجب أن تقف الدولة بالعقل قبل السلاح في مواجهة ما يهدد أمنها ويتوغل في عقول أبناءها. يجب أن تستعين بشيوخنا المعتدلين الوسطيين الذين يحظون بقبول لدى الشباب خاصة، والمجتمع بصورة عامة لإيضاح أن استخدام العنف ليس من تعاليم أي دين وليس قريباً حتى من تعاليم الإسلام. بل إن كل الأديان تدعو للسلام والمحبة.
تحدثنا عن ضرورة تجديد الخطاب الديني الإسلامي والمسيحي خلال علماء لديهم حجة ومنطق، حتى لا نقع في دوامة التفاسير والمغالطات والمجادلات التي تنتهي بفشل محاولات التجديد والتحديث.
مصر بحاجة إلى نظام يُفكر بجدية في إعلاء مكانة الحوار المجتمعي. نظام يعطي المفكرين والعلماء وأصحاب الرؤى كل الأدوات اللازمة للتفرغ والإبداع، ومساعدة العقل الجمعي على تغيير مساره من التفكير الهدام وتبني العنف إلى اتخاذ الحوار السلمي وسيلة تواصل، وقطع طريق على الأفكار الهدامة التي لا يأتي من وراءها غير الخراب والإرهاب.
أثناء انصرافنا، نظرنا بخجل إلى المبنى الذي يضم بين جنباته أبطالًا فقدوا أطرافهم وتقاعدوا وهم في عز شبابهم غير عابئين بحجم تضحيتهم في سبيل أمن الوطن واستقراره. تمنيت أن يُعيد أُولي الأمر في بلادنا النظر في استراتيجية مواجهة الإرهاب وأن يتفحصوا الأسباب "الحقيقية" حتى يتوقف النزيف ولا يزيد عدد ضحايا الوطن.