أحدث الأخبار
مفارقات بين مواقف الحاكم المحتل والوطني من مظاهرات المصريين
كشف تقرير صدر مؤخرا عن مدي التشابه بين دوافع وممارسات ووساوس الاحتلال البريطاني والحكام "الوطنيين"- الذين تعاقبوا علي حكم مصر بعد الاستقلال- إزاء ممارسة المصريين للحق في الاحتجاج ضد سياسات وممارسات كل منهم! غير أنه لوحظ أن القمع الممارس ضد المصريين يزداد عنفا وقسوة عند الحكام "الوطنيين" كلما اتسم خطابهم بحرارة "وطنية" ملتهبة!.
ولد قانون التجمهر علي أيدي سلطة الاحتلال البريطاني لمصر في عام ١٩١٤، وقدموه حينئذ باعتباره تشريعا استثنائيا لمواجهة ظروف أول حرب عالمية في التاريخ الانساني. ساعدهم في ذلك حسين رشدي رئيس الوزراء المتعاون مع الاحتلال، والذي أوقف اجتماعات الجمعية التشريعية خلال الحرب، ليغتصب سلطة التشريع لنفسه اثناء سفر الخديوي عباس حلمي خارج البلاد والذي كان يمتلك قانوناً سلطة التشريع. نعم، ولد قانون التجمهر بالمخالفة لكل الاجراءات الدستورية والتشريعية السائدة في مصر ذلك الوقت، وفي سياق علاقة تبعية من رئيس السلطة المصرية للاحتلال، ومع ذلك عاش القانون ١٠٣ عاما بعد ذلك -بما في ذلك في العهود التي اكتسبت شرعيتها من خطابات الاستقلال الوطني الملتهبة ضد الاستعمار والامبريالية- ليسجن عشرات الألوف من المصريين الذين احتجوا ضد الاحتلال أو ضد حكام “الاستقلال”. فلم يخجل واضعو قانون التظاهر من تضمين قانون التجمهر في صدر مواد إصدار قانون التظاهر الصادر في نوفمبر ٢٠١٣.بل جري “تطويره” علي أيدي الحكام “الوطنيين” بعد الاستقلال لجعل مواده أكثر قسوة، كما تم استغلاله وبناء تشريعات تعتمد عليه تبيح قتل المتظاهرين سلميا. بما في ذلك من كانوا بسبيلهم لوضع باقة زهور علي شهداء ثورة ٢٥ يناير، مثلما كان مصير شيماء الصباغ.
وفقا للوثائق التي اطلع عليها باحثو مركز القاهرة لدراسات حقوق الانسان، فإن سلطات الاحتلال البريطاني وعملاءها لم يتركوا حجة يرددها الآن المدافعون عن قانون التظاهر في مصر بعد أكثر من مائة عام من فرضه علي المصريين إلا واستدعوها، بما في ذلك الزعم أن حرية التظاهر ليست مطلقة في كل دول العالم، وبالتالي فإن تقييدها في مصر في زمن الاحتلال أو الآن ليس استثناء! تري من يستلهم من؟
كانت المقاهي أيضا تسبب صداعا كبيرا لسلطات الاحتلال، فكانت تزرع فيها عملاؤها لرصد المزاج العام، وتتعامل مع بعض هذه المقاهي باعتبارها مقار اجتماعات تنظيمية بين زعماء الحركة الوطنية ضد الاحتلال. فكانت تراقب بشكل خاص مقهى جروبي ومقهى آخر بجوار مسرح سلامة حجازي، تماما مثلما تتعامل الأجهزة الأمنية الآن مع مقاهي وسط القاهرة، ولنفس الأسباب! بل كانت سلطات الاحتلال لا تتورع عن مهاجمة مقاه بعينها، باعتبارها وفقا لتفسيرها لقانون التجمهر تنطوي علي “تجمهر” لعدد أكثر من خمسة أشخاص، حتي لو كانوا يشربون الشاي. علي نفس النحو الذي يجري أيضا في العامين الأخيرين.
تكمن مفارقة أخرى في التشابه بين الكيفية التي استخدم بها الاحتلال البريطاني هذا القانون وكيفية استخدامه الآن. فقد استخدم هذا القانون لقمع مظاهرات ثورة 19 والسيطرة على المجال العام وتفريق أي اجتماع للقوى الوطنية المنادية بالاستقلال والدفاع عن سيادة مصر على كامل أراضيها، وهو ما تم أيضاً استخدامه في العام الماضي بنفس الكيفية لفض ومحاكمة المتظاهرين المصريين الذين خرجوا إلى الشوارع اعتراضا على التنازل عن السيادة المصرية على جزيرتي تيران وصنافير!
كما تكشف المراسلات الرسمية البريطانية عن حالة ذعر من “ثورة قادمة”، وأيضا عن وساوس إزاء تمويلات أجنبية ألمانية وعثمانية لحركات الاحتجاج، واتصالات بعناصر أجنبية، علي نحو يذكرنا بتحشيشات “حروب الجيل الرابع” التي يطنطن بها في العامين الماضيين من يسمونهم خبراء استراتيجيين. من يستلهم من؟
الأكثر إثارة للدهشة، أن الذين اشتغلوا علي هذا التقرير، اكتشفوا أن هذا القانون الذي ولد بشكل قسري وغير دستوري، وفي زمن حرب عالمية انتهت منذ مائة عام، قد ألغاه البرلمان المصري منذ ٨٩ عاما، ومع ذلك عاش القانون الميت ليقتل ويسجن عشرات الألوف من المصريين!
ففي أول برلمان لثورة ١٩١٩ اعترض الأعضاء علي استمرار العمل بقانون قمعي للمصريين بعد الثورة، وأوصوا بإلغائه. في الواقع كان مجرد نجاح ثورة ١٩١٩ هو شهادة بفشل القانون في القيام بمهمته الخسيسة في قمع الكفاح الوطني للمصريين ضد سلطة الاحتلال. ولكن قبل أن يلغي البرلمان القانون في عام ١٩٢٤، قام الملك بحل البرلمان.
بمجرد انتخاب البرلمان الجديد، تقدم محمد يوسف بك عضو البرلمان عن كفر الدوار باقتراح بإلغاء قانون التجمهر، وذلك بوصفه “من الأحكام العرفية، واستعمل لمصادرة حرية الأفراد والتنكيل بهم”. كان ذلك في عام ١٩٢٦، أي قبل نحو ٩٠ عاما من “التنكيل” بشيماء الصباغ. ولكن-من المفارقات-أنه في ظل الاحتلال أعلنت وزارة داخلية ثورة ١٩١٩ موافقتها علي إلغاء القانون “التنكيلي”، ووافقت لجنة الداخلية بالبرلمان بإجماع الآراء علي إلغائه “باعتباره لايتفق مع الحرية الشخصية المكفولة بالدستور (أي دستور ١٩٢٣)، ولا يتماشى مع العصر الحاضر (أي عشرينات القرن الماضي)، الذي لا يسمح فيه البرلمان (ليس المقصود بالطبع البرلمان الحالي) بوجود مثل هذه القوانين المقيدة للحرية (أي في زمن الاستعمار القاسي بالطبع).
ثم وافق مجلس النواب أيضا علي إلغاء قانون التجمهر. وفي ٣٠ يناير ١٩٢٨ وافق مجلس الشيوخ بالإجماع علي إلغائه، ورفعه للملك فؤاد الأول لاعتماد القرار ونشر إلغاء قانون التجمهر في الجريدة الرسمية. ولكن الملك القلق علي ثبات كرسي الحكم كان له رأي آخر، فقد كان ينظر لقانون التجمهر باعتباره سلاحا يحمي كرسيه، ويخشي أن يفقده بعد إلغاء القانون.
وفقا لدستور ١٩٢٣ كان الملك يمكنه الاعتراض خلال ٣٠ يوما، وإلا فإن الإلغاء يعتبر نافذا. ولكن الملك كان يخشي برلمان الثورة بقيادة حزب الوفد والنحاس باشا. كان ذلك زمنا مختلفا، قبل أن يصير الوفد ذيلا لكل من يحكم. توجه الملك فؤاد الأول مستغيثا ببريطانيا، ليحثها علي استخدام نفوذها الاستعماري المحمي بالسلاح ضد برلمان مواطنيه. ولكن الرد البريطاني جاء صاعقا. ففي رسالة اطلع عليها باحثو مركز القاهرة خلال زيارة للأرشيف الوطني البريطاني في لندن، اعتذر المسئول البريطاني للملك قائلا “سيكون من الصعب أن نبرر للجمهور الديموقراطي الانجليزي أهمية الاحتفاظ بقانون يناقض تماما الروح الديموقراطية، والذي اصطك في عهد مستبد وبروح مستبدة”!. المدهش، أن الملك والحكام “الوطنيين” الذين توالوا علي الحكم بعد الاستقلال لم يجدوا أي غضاضة في أن يواصلوا استخدام قانون استبدادي تبرأ منه المستعمر منذ ٨٩ عاما، ورغم إلغائه بسلطة البرلمان. ابتلع الملك الرسالة المهينة، ولم يعترض رسميا علي إلغاء القانون، بعد أن تأكد من أن قوات الاحتلال لن تسانده، واكتفي بعدم إرسال الإلغاء لنشره بالجريدة الرسمية، ثم قام بحل البرلمان في أول فرصة لاحت له، ولكن بعد أن ضاعت منه دستوريا فرصة الاعتراض علي إلغاء قانون التجمهر في المواعيد المقررة دستوريا.
للأسف، اعتبر من حكموا مصر بعد استقلالها هذا القانون الملغي بمثابة “هدية من العهد البائد” - مثلما تقول الدراسة. ولكنهم لم يكتفوا “بالهدية”، بل عززوها بترسانة من الإضافات والتعديلات التي منحت الشرطة “الوطنية” حق استخدام الأسلحة النارية ضد المصريين وقتلهم، باعتبار أن أي التقاءبين أكثر من خمسة أشخاص هو "تجمهر" قد يهدد الأمن والسلم العام، حتي لو كان ذلك متجسدا في أم - أي شيماء الصباغ- تحمل زهورا بصحبة أكثر من أربعة زملاء آخرين وفاء لذكري وطنية خالدة. للعلم، جري هذا التعديل القانوني “القاتل” في عهد "الزعيم خالد الذكر" جمال عبد الناصر!
إنني آمل أن يتدارك الرئيس عبد الفتاح السيسي هذا العار الأخلاقي والوطني، وأن يقوم بتصحيح يعيد الاعتبار لسيادة مبدأ حكم القانون والدستور. ليس فقط بنشر إلغاء قانون التجمهر في الجريدة الرسمية، ولكن أيضا بالمبادرة بالإفراج الفوري عن الآلاف الذين سجنوا في سياق تطبيق قانون فرضه المستعمر الأجنبي، وألغاه البرلمان الوطني بمجلسيه منذ ٨٩ عاما، بل وتبرأمنه المستعمر ذاته. كما يجب الاعتذار لهؤلاء الذين أضيروا سجنا وتشريدا وقتلا من قانون التجمهر، وتعويض ذويهم. إن استمرار العمل بهذا القانون رغم كل هذه الاعتبارات هو وصمة عار وطني ستطارد كل مسئول بيده وضع حد لها.
وليكن هاديا للرئيس عبد الفتاح السيسي كلمات محمد بك يوسف عضو مجلس النواب عن كفر الدوار في المذكرة الايضاحية لإلغاء قانون التجمهر التي قدمها للمجلس منذ ٩١ عاما، في ١٥ يناير١٩٢٦، حيث قال : “هذا القانون الاستثنائي الذي هو من الأحكام العرفية، قد استعمله رجال السلطة التنفيذية لمصادرة حرية الأفراد والتنكيل بھم في ظروف عدیدة إبان الحرب العالمية، وبعد أن وضعت الحرب أوزارها، وقبل إعلان الأحكام العرفية في البلاد وأثنائها وبعد زوالها، ولایزالون يستعملونه إلى الآن على الرغم من القضاء علبه بالدستور (المقصود هو دستور ١٩٢٣)،الذي نص في المادة الرابعة منه "بأن الحریة الشخصية مكفولة”، وفي المادة العشرين منه "بأن للمصریین حق الاجتماع في هدوء وسكينة... الخ؛، فلا وجه اذاً لبقاء ھذا القانون، ویجب إلغاؤه."