خمس سنوات على يناير.. كيف تأثر القضاء المصري؟

السبت 23-01-2016 PM 10:13
خمس سنوات على يناير.. كيف تأثر القضاء المصري؟

أولى جلسات محاكمة 213 من "أنصار بيت المقدس"، 5 مارس 2015. تصوير: محمد الراعي - أصوات مصرية

كتب

اكتسب القضاء المصري المستقل تقدير الباحثين ورموز المعارضة السياسية وكثير من المنظمات غير الحكومية قبل ثورة 2011، بسبب دفاعه بقوة عن القيم الديمقراطية والحقوق السياسية. وبعد الثورة لم يتغير القضاء وإنما تغيرت ردود فعل قضاة وأعضاء مكتب النائب العام إزاء التهديدات للأمن، حسب مقال نشر بموقع الإنترنت لمركز الشرق الأوسط ومقره واشنطن.

كتب المقال ديفيد ريسلي، الذي عاش في مصر وعمل عن قرب مع السلطة القضائية ومكتب النائب العام ووزارة العدل من سبتمبر 2010 إلى أبريل 2015 ممثلا لوزارة العدل الأمريكية كملحق دبلوماسي ومستشار قانوني.

وقال ريسلي إن ناثان براون قال في كتابه "كبح جماح السلطة التنفيذية" عن القضاة والإصلاح السياسي في مصر -الصادر عن الجامعة الأمريكية في القاهرة عام 2008- إن المحاكم الإدارية والمحكمة الدستورية كانت أماكن لجهود فردية، ومنظمة لبث الحياة في المؤسسات والممارسات الديمقراطية الرسمية في مصر. وكانت المحاكم تمثل أماكن أكثر ودا بالنسبة للأحزاب السياسية الساعية لنيل الاعتراف، والباحثين عن الحقوق السياسية، والمنظمات غير الحكومية التي تتحدى القيود، والنشطاء الساعين للتخلص من الإجراءات الانتخابية غير المنصفة.

وأضاف أنه بعد ثورة 2011، وخاصة بعد عزل الرئيس محمد مرسي في 2013، لم يتغير القضاء نفسه، بل اختلفت ردود العديد من القضاة وأعضاء النيابة العامة إزاء الاعتداء على المؤسسات وتهديدات الأمن العام، الواقعي منها أو المتصور. ومن الواضح، أن قيمة النظام والاستقرار فاقت لدى معظم المنتمين لمؤسسة الدولة، بمن فيهم القضاة، كل ما عداها تقريبا. بل أصبح واضحاً أن كثيرا من المصريين، ربما معظمهم، ومنهم عدد مدهش من الليبراليين، مستعدون للتسامح مع الإجراءات الأمنية القاسية، بل ودرجة خطيرة من انتهاكات حقوق الإنسان، إذا اقتضت ذلك ضرورات الأمن العام واستعادة النظام في الشوارع.

وفي الوقت نفسه، أضيف تحد عملي ضخم على كاهل نظام المحاكم المدنية، نتيجة الفراغ الناشيء عن إنهاء حالة الطوارئ بعد الثورة. ويتضمن هذا التحدي نظر كمية كبيرة من القضايا المدفوعة بدواع سياسية، تدفقت فجأة على النظام القضائي التقليدي، وتضم آلاف المتهمين المعتقلين في مجموعات كبيرة غالباً في حين أن القضاء المدني، وحتى النظام القانوني نفسه، غيرمهيأ بدرجة كافية للتعامل مع هذا من حيث القدرات أو توفر الإجراءات اللازمة.

ولم يكن جميع القضاة، وخاصة في المستويات العليا، مستعدون للتسامح، ولو مؤقتاً، مع التسرع في جمع الأدلة وهشاشة الإجراءات على حساب نزاهتهم القضائية. فكانت أحكام المحكمة الابتدائية المتسرعة تعاد باستمرار للاستئناف أمام محكمة النقض أو المحكمة العليا. وأيد كثير من كبار القضاة الإصلاحات المؤسسية الكبرى الهادفة إلى ترقية الأداء المهني في القضاء.

وقال ريسلي إنه على المدى الطويل، لابد أن يلعب القضاة المصريون دوراً محورياً، إذا شاءت مصرالتحرر من تاريخها الطويل في حكم الفرد وثقافته عميقة الجذور، وتأسيس ديمقراطية وظيفية مستقرة. فالقضاء هو المؤسسة الوسيطة الرئيسية بين الشعب وحكومته، ويعطي الشرعية لتصرفات الحكومة، بل للحكومة نفسها، أو يحجبها. ويعمل القضاء حكماً في سباق التيارات الاجتماعية والمصالح السياسية المتنافسة على الصدارة، بل يقرر بشكل أساسي القواعد القانونية للمشاركة فيه. والمصريون الراغبون في حكم القانون والديمقراطية المستقرة، لا يمكنهم التخلي عن أفضل العناصر داخل القضاء في هذه المرحلة الحرجة.

* تحديات التحول

حكمت مصر منذ 1939 وحتى 2011، عدا فترات فاصلة قصيرة جداً، إما بالقانون العرفي وإما بحالة الطوارئ. وخوّل لمحاكم استثنائية، استخدام إجراءات معجلة والتساهل في توفر الأدلة والمعايير الإجرائية، عند نظر قضايا أمن قومي معرّفة بشكل فضفاض. فتشكل نظام للمحاكم الخاصة يشغل المنطقة الوسيطة بين نظام المحاكم العامة والمحاكم العسكرية. وبعد ثورة 2011، أعلن الحكام العسكريون حينها إنهاء حالة الطوارئ. وحل محاكم الطوارئ الاستثنائية، وعدّل قانون الطوارئ نفسه بإضافة حدود للفترة والنطاق، وحظرت المحاكم الاسثتنائية بموجب الدستور. ورغم الترحيب الكبير بذلك، إلا أن زوال تلك المنطقة الوسيطة كانت له عواقب عملية مهمة.

وعندما اقتصر اختصاص المحاكم العسكرية على الشؤون العسكرية بموجب القانون الدستوري، تحولت معظم القضايا فيها إلى نظام المحكمة العامة، التي تعاني بالفعل من تراكم طاحن للقضايا. وأسفر ذلك عن تأخير أطول في التقاضي يصل عادة إلى سنوات، مما أدى لوجود فترات طويلة من الاحتجاز قبل المحاكمة والحبس انتظاراً للاستئناف في القضايا الجنائية. وعلى أثر الاضطرابات المدنية بعد ثورة 2011، وخاصة بعد عزل الرئيس محمد مرسي، حدث تدفق مفاجئ لعدد ضخم من القضايا والمتهمين، على نظام المحاكم العامة الذي يعاني بالفعل، مع الحاجة إلى التسريع استجابة للوضع الأمني الآخذ في التدهور السريع. وأسفر ذلك كله عن ضغوط مؤسسية كبيرة، واللجوء إلى الاختزال في العملية القضائية. ولجأت النيابة العامة إلى هذه الذرائع في المحاكمات الجماعية للمحتجين، وتغاضى عديد من القضاة عن المعايير المعتادة في مصر التي تشترط للإدانة أدلة دامغة ومراعاة الإجراءات القانونية الواجبة.

وحينما تختصر الأركان المتعلقة بتوفر الأدلة أو الناحية الإجرائية في المحكمة الابتدائية، تعيد محكمة النقض المحاكمة، فيحدث تأخير إضافي في حلقة التقاضي. وتعتبر محاكمة الرئيس السابق حسني مبارك وإعادة محاكمته ثم محاكمته للمرة الثالثة مثلاً قاطعاً على ذلك. وربما استهدف في قضايا كثيرة، وخاصة المحاكمات الجماعية، حبس المتهمين لفترة زمنية طويلة، ولو تم الإفراج عنهم بعد انقضاء دورة التقاضي الطويلة في نهاية الأمر.

* تيارات متنافسة في القضاء

وقال ريسلي إن القضاء المصري اتسم دائماً بالتعقيد، ووجود تيارات متعددة وتيارات فرعية. ولم يكن القضاء متجانساً أبداً قبل الثورة وبعدها. إنه هيئة ضخمة تضم 10 آلاف قاض، داخلها فصائل مهنية وسياسية، وطبقات وتيارات مدفوعة برؤى مختلفة حول دور ومصالح القضاء ومتطلبات ومبادئ الحكم.

ويتوحد القضاة في حماية مصالحهم المؤسسية، لكنهم ينقسمون دائماً في رؤيتهم حول دور القضاء في حماية "الصالح العام" وتعزيزه. يرى بعض القضاة الدور الملائم للقضاء في العمل كذراع للدولة في التنفيذ، وهو ما يعرف بنموذج "تقسيم العمل." واختلف مع ذلك آخرون إذ مثل القضاء لهم مؤسسة مستقلة عليها واجب تحقيق حكم القانون، بصرف النظر عن جدول الأعمال السياسي للحكومة، وتعمل تلك المؤسسة بالنسبة لهم عند الضرورة بوصفها مراقبا قانونيا على سلطات الأفرع السياسية، وهو ما يعرف بنموذج "فصل السلطات." ويردد القضاة في المحكمة العليا والمحاكم الابتدائية وجهتي النظر، مع زيادة تكرار الثانية بين قضاة المحكمة العليا، والأولى بين قضاة المحاكم الابتدائية.

وبينما يركز انتباه التقارير الإعلامية على الأحكام المتسرعة، لا يعطى الاهتمام الكافي للأحكام المتروية، بما فيها إعادة الأحكام للاستئناف في قضايا يحكمها قضاة عبر الطيف السياسي. وحتى على مستوى المحكمة الابتدائية، علّق كثيرون على الأحكام الجماعية، ولكن لم تنل التبرئة الجماعية ما تستحق من تعليق.

وبشكل عام، يتمتع القضاء المصري بالاستقلال إلى مدى كبير فيما يتعلق بتوازن السلطات – أو تنافسها. وهو مستقل تماماً من الناحية المؤسسية. وكقاعدة عامة، يناضل قضاته بقوة دفاعاً عن استقلالهم. وعلى سبيل المثال، يعين الرئيس القضاة المدنيين، إلا إنه لا يختار من يقوم بتعيينهم. ويختار الجهاز القضائي أعضاءه وكبار مسؤوليه بنفسه، بمن فيهم المدعي العام. وفوق هذا، ينص الدستور على اختيار المحكمة الدستورية العليا لأعضائها ورئيسها، وتحديد عدد القضاة في المحكمة.

وبينما يحتفظ وزير العدل بدرجة من السيطرة على بعض جوانب الإدارة القضائية، إلا أن هذه الدرجة تقلصت بعد ثورة 2011. وفيما عدا سلطة التوصية باتخاذ إجراءات تأديبية ضد القضاة المبتدئين غير المنضبطين، لا تمتلك وزارة العدل سيطرة واقعية على صناعة القرار في القضاء أو النيابة العامة. بالإضافة إلى ذلك، نص الدستور في إحدى فقراته على تجريم التدخل في شؤون القضاء.

* الجهاز القضائي في عهد مرسي والسيسي

في فترة حكم الإخوان المسلمين القصير، توحد الجهاز القضائي تماماً على رؤية أن الإخوان متعارضون مع مصالحهم وقيمهم. وقد تعددت الهجمات على القضاء أثناء حكم مرسي، ومنها نص مادة في دستور 2012، على تقليص حجم المحكمة الدستورية العليا إلى النصف تقريبا، مما يسفر عن استبعاد معظم أعضائها الأصغر سنا. ثم تقدم مجلس الشورى بقانون لخفض سن تقاعد القضاة من 70 إلى 60 سنة، ومن شأن هذا عند تطبيقه استبعاد باقي أعضاء المحكمة الدستورية العليا إلا واحدا. وكان الأهم إعلان مرسي أن مراسيمه محصنة ضد المراجعة القضائية في نوفمبر 2012.

وأرضى عزل مرسي وإقامة حكومة انتقالية يرأسها أعلى مسؤول قضائي في البلاد معظم المنتمين إلى القضاء. ولكن الوجه الآخر لذلك، أن القضاء أصبح مديناً بخلاصه للجيش. وانبرى بعض القضاة إلى مقاضاة مرسي ومؤيديه. ورأى مؤيدو مرسي -في الفترة التالية على عزله- أن الاعتداء على مسؤولين في القضاء مبرر بسبب استهداف القضاء لهم، الأمر الذي أفضى إلى دائرة مفرغة. ويبدو أن بعض القضاة وأعضاء النيابة العامة مدوا منطق الاصطفاف بين مصالح الحكومة والقضاء على استقامته. وأسفر ذلك عن مقاضاة محتجي حقوق الإنسان السلميين والعقوبات الجنائية القاسية التي فرضت على بعض نشطاء المجتمع المدني الليبراليين، وبينهم من كان بالصفوف الأولى في ثورة 2011.

وقبل الثورة، لقي القضاء إشادة واسعة لحمايته حقوق جماعات المعارضة السياسية وجماعات حقوق الإنسان والمنظمات الأهلية. وفي المقابل، وقف كثيرون في تلك الجماعات مع القضاء ودافعوا عنه في الأوقات التي تعرض فيها لأشد المخاطر. والآن، يهاجم بعض أعضاء القضاء من دافعوا عنهم بالأمس، الأمر الذي يمثل خطأً استراتيجياً على مستويات متعددة.

* انخفاض كفاءة التعليم والتدريب في مجال القضاء وكيفية تطويره

لا تبدو جودة التعليم الحقوقي سوى مجرد ظل لزمن أطلقوا فيه على كليه الحقوق "كلية الوزراء". وبعد ثورة 1952 كانت كلية الحقوق تقبل 400 طالب يتلقون تعليماً قانونياً من الدرجة الأولى. ثم أصبحت الكلية بعد ذلك تضم خريجي التعليم الثانوي الذين لا تؤهلهم درجاتهم للقبول في الكليات التي تراها الحكومة مرغوبة أكثر. واليوم، تقبل كلية الحقوق بجامعة القاهرة 40 ألف طالب، وتعتمد البرامج الدراسية فيها على التلقين، وتكاد تخلو من التدريب على التفكير النقدي والمهارات التحليلية. وأصبح تدريب القضاة -الذي كان الأفضل في المنطقة- بنفس التدهور وتنخفض جودته من عام إلى آخر.

والإصلاح القضائي في مصر يجب أن يأتي من داخل الجهاز القضائي نفسه. ولحسن الحظ، هناك إقبال كبير من أعضاء القضاء على التدريب ذي النوعية الجيدة لتطوير المهارات المهني بما في ذلك البرامج المقدمة أو الممولة من حكومات أجنبية، على أن يقدم أخصائيون قانونيون هذا الدعم على أساس من الندية، وخاصة عندما يقدم بالشراكة مع القضاة المصريين. ويوجد بين الشخصيات المهمة في القضاء ووزارة العدل، رواداً يمتلكون الدور والإرادة للقيام بجهود عظيمة لتطوير التعليم الحقوقي من حيث الجودة والكمية.

ومن الاقتراحات في هذا الشأن، استبدال البرنامج المحدود -المقدم اليوم من قبل المركز القومي للدراسات القضائية- بأكاديمية قضائية، الدراسة بها لمدة عامين، وتمنح ماجستيراً في القانون، وتقدم التدريب للقضاة المصريين وغيرهم من القضاة في المنطقة. كما يقترح إنشاء المعهد المصري لتسوية الصراعات والنزاعات، للتدريب على مهارات وأدوات التوسط، التي من شأنها تقليل عدد القضايا المنظورة أمام المحاكم، وبالتالي تخفيف الضغط عليها. كما تعبر المحكمة الدستورية ووزارة العدل ومكتب المدعي العام عن رغبة قوية في تنظيم رحلات دراسية وتبادل الزيارات مع النظراء في البلدان الأخرى، إلى جانب تنشيط المنح الدراسية.

* خلاصة

رغم الاضطراب الحالي، مازال القضاء هو الأكثر استقرارا بين أفرع الحكومة المصرية. ويحتفظ اليوم بالإمكانية نفسها للقيام بدور المراقب على التجاوزات الاستبدادية، كما كان قبل الثورة مع الرؤساء والبرلمانات السابقة. ورغم هذا، تدفع أحداث السنوات القليلة السابقة بعض القضاة لاستخدام سلطاتهم كأداة في مواجهة من يتصور أنهم أعداء القضاء والدولة. والجيد أن هناك الكثير يمكن، ويجب، عمله لدعم عمل أفضل العناصر في القضاء المصري.

تعليقات الفيسبوك