أحدث الأخبار
حسن رمزي طالب بالسنة النهاية بكلية الحاسبات والمعلومات، مغترب ومقيم بالمدينة بالجامعية، لكنه مع ذلك اعتاد البحث عن مكان لمذاكرة دروسه ولم يجد ضالته طويلاً.
الجو المختنق بالدخان والضوضاء في المقاهي العامة اضطّره للتوجه إلى المكتبات العامة لكنه لم يجد فيها إنترنت، فذهب إلى مقاهي الإنترنت التي لم يجد فيها الهدوء المناسب ولا حتى طاولة يجلس عليها.
يقول رمزي إنه - بجانب دراسته - عضو في أكثر من نشاط طلابي وكلها تحتاج لإقامة الاجتماعات على الدوام وهو أمر مكلف جعله يعاني من التكلفة الباهظة التي قد تصل إلى 100 جنيه في الساعة.
وأضاف رمزي "ندفع من جيوبنا لكى نمول نشاطاً تطوعياً نعني به إفادة غيرنا فليس من الممكن أن نتحمل مصاريف إدارية فوق تكلفة المشاريع نفسها".
حال رمزي لا يختلف كثيرا عن حال غالبية الطلاب، والشباب وأصحاب المشروعات الناشئة والمبادرات المجتمعية الذين يبحثون عن الهدوء وتوافر الأدوات بأقل التكاليف، لإنجاز أعمالهم.
من رحم البحث عن الهدوء وانخفاض التكاليف بدأت المجموعات الشبابية -بعد ثورة 25 يناير- فى سد الاحتياج بإنشاء مشروعات "مساحات العمل المشترك".
وتقوم فكرة "مساحات العمل المشترك" على استئجار مكان وتجهيزه بالأثاث وأدوات ورش العمل والعروض والاجتماعات وبعض الأدوات الفنية للمشروعات التقنية والإنترنت، ثم تأجير المكان لقاء مبالغ زهيدة جداً تبدأ من 5 جنيهات للأفراد إلى 40 جنيها للمجموعات.
وظهرت أول مساحة مشتركة في مصر في نوفمبر 2011، وعزت بعض الدراسات المستقلة ذلك إلى حرية الحركة فى المجتمع بعد الثورة وتقبل الأفكار الجديدة، وبحث الشباب عن تجمعات تمثلهم على أكثر من صعيد.
ورغم أن تكلفة إنشاء المساحات تصل في المتوسط إلى 25 ألف جنيه، إلا أن أغلبها يعتمد على التمويل الذاتي.
ووصل عددها الآن إلى ما يقرب من 100 مساحة عمل مشترك يتواجد ثلثاها في القاهرة الكبرى وتتوزع البقية على المحافظات.
وأظهرت دراسة ألمانية صدرت عام 2011، أنه منذ إنشاء أول مساحة عام 2005 فى سان فرانسيسكو على يد الشاب الأمريكي براد نيوبرج، تبين أن مرتادي مساحات العمل المشترك فى العالم نصفهم من العاملين المستقلين وغالبيتهم يعملون فى صناعات جديدة وثلثيهم من الرجال، وتتراوح أعمارهم بين العشرين والثلاثين.
وبخلاف تقديم الخدمة المكانية يهدف مؤسسو المساحات إلى جمع أصحاب المواهب والشركات الناشئة والمبادرات التنموية -من الأفراد والمؤسسات- فى مكان واحد يسمح بتبادل الخبرات. ويسعون لذلك بإقامة العديد من الأنشطة في مجالات العمل المجتمعي والتنمية وصقل المواهب وبناء القدرات.
ولم تحقق أغلب المساحات الربح المرجو بل إن بعضها مازال يغطي مصاريفه فحسب، لكن الشباب يتجه للفكرة كونها مشروعاً يجمع بين ريادة الأعمال وبين استمرارهم فى خدمة المجتمع، كما يرون إمكانية نجاحه وتطوره مع الوقت.
ويعمل المؤسسون الذين أتى أغلبهم من خلفية النشاط الطلابي والمجتمعي على تحويل مساحات العمل المشترك فى مصر إلى حواضن للأفكار المبتكرة ومحاولات تغيير المجتمع للأفضل.
وتبعاً للتغيير الذي تحدثه هذه المراكز في البيئة المحيطة، يتوقع البعض أن تمثل هذه المساحات نقاط ربط لمحاولات التغيير فى مصر كلها.
المنصورة تغذي خلية النحل
فى موقع حيوي بمدينة المنصورة، بدأ ستة من الطلاب مشروع إنشاء مساحة عمل مشترك تجمع الشباب والمجتمع المدني بروافده. "جروت" هو الاسم الذي اختاروه لمشروعهم مقروناً بوجه كرتوني وديكورات توحي بالحيوية والخروج عن المألوف.
ويجد رواد "جروت" تطبيقاَ على متجري جوجل وأبل ييسر لهم حجز مساحة فردية أو غرفة اجتماعات في ثوان، ويسمح لهم أيضاً بمعرفة زوار المساحة في نفس الوقت لكي يتيح فرص التعاون والتشبيك بينهم.
درجتا سلم للأسفل وتدخل "معمل المبتكرين"، وهو مساحة مخصصة للعاملين على مشاريع تقنية ويدوية، وتجد في متناولك أغلب المعدات اللازمة لمشروعك (براغي، مكاوِي لحام، عدد هندسية، قواطع، أدوات رسم، طابعة ثلاثية الأبعاد).
ولم يكتف المؤسسون بتوفير المساحة والأدوات بل قاموا بتوفير منفذ لشرائها بسعر أقل من سعر السوق في محاولة منهم لجعل هذا المكان معملاً حقيقياً يقبل عليه رواد المجال.
ويقول محمود موسى –الطالب بكلية الهندسة- "جروت هو إسهامنا للمجتمع ومدينتنا، قدمنا فيه خبراتنا الطويلة في العمل التطوعي آملين أن ننشر من خلاله ثقافة التغيير والتنمية".
ويقول رمزي الذي وجد في المكان ضالته المنشودة "التقيت من سبقوني بالخبرة وشاركوني خبراتهم العلمية ونصائحهم العملية لدخول سوق العمل، وهو ما لا يمكن الإلمام به فى ندوة أو دورة أو كتاب وقد تطورت بعض هذه العلاقات لصداقات هي من أثمن ما حصلت عليه حتى الآن".
"مِشْكاة".. نور فى قلب القاهرة
شيماء وشروق طبيبتان بادرتا بإنشاء "مشكاة" كمساحة للعمل المشترك في حي المنيل بالقاهرة تخدم طلبة الكليات الطبية المحيطة.
باب خشبي عتيق، وأيقونات تراثية من زير وقلل الماء وأكلمة يدوية الصنع توزعت فى المكان لتنقل لزائر المشكاة روح شارع المعز، وتفصله عن الإيقاع السريع خارج المكان.
ترى "شيماء إمام" إن إسهامهما الأبرز هو محاولة نفخ الروح في فكرة العمل المشترك، إذ تعنى أولاً بخلق شبكة ربط بين أصحاب المبادرات الثقافية والتوعوية على اختلافها.
وتركز "مشكاة" نشاطها على تطوير المهارات وصقل المواهب في مجالي التعليم والفنون عبر ورش العمل والدورات التدريبية والمحاضرات.
"مشكاة جعلت مني شخصاً آخر لا يخشى المجازفة ويؤمن أن الفرص متاحة وكل شئ ممكن، حتى فى الأزمات استطعت أن أتجاوزها بالثقة في قدراتي التي مكنتني من إنشاء هذا المكان وصناعة نجاحه"، هكذا تعلق شيماء مختتمة حديثها بثقة وتفاؤل وإيمان بمشكاة الذى تحلم باتساعه ليتحول إلى عدة فروع بالقاهرة.
"تشابيك" تَلُم صعيد مصر
واجه شباب العمل الخيري والتنموي بالمنيا مشكلة افتقار مدينتهم لمكان مجهز يسمح بإقامة أنشطة متنوعة ولا يضيف عبئاً مادياُ على ميزانيتهم ذاتية التمويل بإنشاء "تشابيك" كأول مساحة عمل مشترك في المحافظة.
وتركز "تشابيك"، حسب مؤسسها أحمد الرفاعي على بناء قدرات الشباب وتنمية مهاراتهم عن طريق إقامة الندوات المجانية والدورات ذات الأجر الرمزي، بخلاف توفير الخدمة المكانية بمبلغ زهيد (5 جنيهات لكل 4 ساعات).
ورغم تحديات التمويل ونقص الخبرة الإدارية، واجه مؤسسو "تشابيك" تحدياً إضافياً كونهم من أبناء الصعيد الذي ما يزال يتمثل العادات والتقاليد ويتشرب الأفكار الجديدة ببطء، ما دفعهم إلى تخصيص مساحة للفتيات فقط تطمئنهن وذويهن إلى أمان المشروع.
ويقول الرفاعي "الأنشطة التطوعية والعمل المجتمعي أحدثوا فارقاً في وعي شباب المنيا، إلا أنه مازال أمامنا الكثير من العمل وتركيزنا ينصب في مقدمته على دعم قضايا المرأة بصعيد مصر".
"البنفسج".. للبنات فقط
أنشأت هند الشريف وصديقاتها أول مساحة عمل مشترك في مصر "للفتيات فقط"، وحققن حلم شريحة واسعة من الفتيات في وجود بيئة توفر بعض الراحة من التحرش اليومي في الشارع والمواصلات، كما تسمح لهن بممارسة بعض الأنشطة التي لا يمكنهن ممارستها أمام الجنس الآخر.
تقول هند الشريف "فكرنا في إقامة مساحة تجمع بين استرخاء المقهى وطاقة الإيجابية في مساحة العمل المشترك، ونتناول في هذه المساحة سائر تفاصيل الحياة بعين المرأة ومن زاويتها.. نعرض الأفلام التي تعنى بقضايانا أو ترى بعيوننا ونقرأ الكتب التي تتحدث بلساننا أو تخاطبنا، وتصقل مهاراتنا كما نراها لا كما يقولبنا المجتمع".
ويعتمد "بنفسج" على الفتيات من أول مؤسساته وزائراته حتى مقدمات الأنشطة وورش العمل والدورات التدريبية والضيوف من الشخصيات العامة.
وكبيئة مغلقة للفتيات يمتاز "بنفسج" بتقديم الأنشطة الرياضية كالتدريبات البدنية وأشكال الرقص والحفلات الترفيهية، والدورات التدريبية فب الأنشطة النسوية التقليدية من الأشغال اليدوية والطبخ وتربية الأبناء. كلها وسط درجة مرتفعة من الخصوصية والاطمئنان.
وُجدت العقبات للقفز فوقها
يشرح المحاسب القانوني محمد حسن إجراءات تدشين مشروع مساحات العمل المشترك واصفاً إياها في المجمل بالصعوبة البالغة. إذ يحتاج المؤسسون في البدء إلى أن يوفروا مبلغاً مالياً يودعونه في البنك ويجمدونه لحين صدور البطاقة الضريبية والسجل التجاري، ثم يشرعون في الإجراءات الطويلة التي تبدأ بالاصطفاف أمام منافذ هيئة الاستثمار منذ السادسة صباحاً.
ويضيف "لا أنصح أي شاب بأن يبدأ نشاطه دون اتخاذ الإجراءات القانونية سواء لجأ لمتخصص قانوني أو محاسبي أو استوفى إجراءاته بنفسه". ويوضح حسن أن القانون يسمح بإنشاء أي نشاط إذا ما استوفى الأوراق لكن لا يكفل تسهيلات خاصة للمشاريع الشبابية، سوى إعفاء ضريبي جزئي مؤقت لشركات التدريب والشركات التي يملكها فرد واحد. وغالباً لا ينطبق أي منها على مساحات العمل المشترك إذ يشترك في تأسيسها مجموعة أفراد لتوفير المال المطلوب.
ورغم اختلاف السبل التي سلكها الشباب لتسجيل مساحاتهم قانوناً وللحصول على التمويل، اتفق أغلبهم على أن المجازفة كانت ومازالت كبيرة.
"مكعب" إسماعيلاوي
الحي الإفرنجي بمدينة الإسماعيلية وبناية تحمل آثار الطراز المعماري الإنجليزي.. هناك حقق ثلاثة من الشباب وثلاث من الفتيات حلمهم في وجود مساحة للعمل المشترك تقدم النفع لشباب المدينة.
روح مثابرة تجلت في اختيار الألوان الباعثة على النشاط والديكورات يدوية الصنع التي استغلت كل متاح حتى صناديق المياه الغازية وأقفاص الفاكهة والمعادن المستخدمة.
تقول إسراء عطية -الفتاة حديثة التخرج والشغوفة بريادة الأعمال- إن "إمكاناتنا بسيطة لكننا بادرنا بأن نكون أول مساحة عمل مشترك في المحافظة.. ونجحنا مع الوقت في تحقيق رؤيتنا وبنينا أجندة تحوي خبايا العمل التطوعي والأنشطة الطلابية والمجتمع المدني في المحافظة، حتى استطعنا التشبيك بين الجهات المانحة لفرص الدراسة والتدريب والعمل وبين المستحقين لها من الطلبة والخريجين.. وكانت أهم لحظات نجاحنا حين استحق بعض رواد مكعب الفرص التي خصصنا أنشطة إرشادية لمساعدتهم على التقدم لها".
وواجه "مكعب" ما يواجه المساحات الأخرى من الصعوبات المجتمعية فالمشروع الذي يراه المجتمع شقة خاصة بها شباب وفتيات يقومون بنشاطات غير تقليدية، لم يستسلم أصحابه بسهولة.
الأمر الذي تشرحه إسراء عطية لافتة إلى أنها استطاعت كسب ثقة الجيران، بدعوتهم لزيارة "مكعب" مراراً حيث حدثتهم عن احترام الآداب العامة ووضع قواعد تصون الجيرة، كالامتناع عن التجمعات خارج المكان وخفض الصوت والامتناع عن التدخين.
من يغزل الغد؟
يحلم أصحاب مساحات العمل المشترك على تنوعهم، أن تتطور إمكانات مساحاتهم فتجذب قطاعات جديدة. ورغم بعض الجهود الفردية لإنشاء كيانات تجمعهم معاً، مازالوا بلا رابطة سواء إلكترونية أو على أرض الواقع لتمرير الخبرات بينهم.
وتحولت مساحات العمل المشتركة من مشروع يوفر خدمة مكانية إلى شبكات تعارف وبيئة شبابية تمتلئ بالإبداع والإيجابية وتشكل فرصة حقيقية لتشبيك طاقات الشباب في مصر كلها، حيث يتشارك الشباب اليقين بأن كل مساحة ستكون حلقة الوصل الأوثق والأيسر بين الشباب وصانعي الفرص والعكس في المستقبل القريب جداً.