أحدث الأخبار
منذ 68 عاما، نشر جورج أورويل رائعته "مزرعة الحيوانات"، والتي انتقد خلالها الفكر الشمولي والأيدولوجية التي اتبعتها الأنظمة في بداية القرن العشرين من شيوعية ونازية وفاشية، من أجل وضع أطر لفكر وتحركات مواطنيها، وجعلهم لا يزيدون عن خراف يسيرون في قطيع بدون تفكير. ففي مثل هذه المجتمعات، يتشابه الجميع في الفكر وكل شيء، وكأنهم تروس تتكامل تضعها بعناية السلطة من أجل تسيير الوضع وفق ما تريد.
لكن وبعد كل هذه العقود وانهيار جميع الأيديولوجيات الشمولية التي شهدتها بدايات القرن العشرين، الوضع لم يختلف كثيرا، فالمواطنون يسيرون في قطيع جديد تحدده السلطات القائمة والأنظمة السياسية الموجودة، حتى وإن كانت تحمل صفة الديمقراطية ومنتخبة من الشعب نفسه.
لقد نجحت الأنظمة الحالية في تأطير حياة مواطنيها بالعديد من القوانين، التي تجعل من حياتهم سيرا متشابهة. في النهار يذهبون للعمل، ويقضون باقي يومهم اتباعا للقوانين والضوابط الموضوعة. إنه قانون الأنظمة السياسية التي أصبحت "تؤدلج" حياة المواطن، وتحدد شكل يومه.
من هنا تنطلق رواية "مزرعة الحيوانات الجديدة La Nouvelle Ferme des Animaux"، للكاتب الفرنسي وأستاذ الاقتصاد بجامعة بوردو، أوليفيه بابو، الصادرة هذا العام عن دار "Les Belles Lettres"، التي تقدم لوحة أدبية جديدة لرائعة أرويل، فهي رواية سياسية ساخرة من أنظمتنا القائمة والكارثة الاقتصادية التي قادتنا إليها، مع انهيار الحريات ووضع حدود عبر الكثير من القوانين لحياة المواطن وتحركاتهم، حتى أصبحت حياة الأشخاص في الوقت الحالي لا تختلف عما كان الوضع عليه إبان الحقبة الستالينية.
تتناول مزرعة الحيوانات الجديدة، شخصيات في صورة حيوانات أيضا، تأمل في إقامة جمهورية يمكنها أن تضمن الحريات لكل شخص وتحقق الازدهار الاقتصادي لهم، لكن كل هذا يسقط بسبب النظام السياسي القائم. ففي الرواية، يشبه المؤلف بابو، غالبية الحيوانات بالنمل، وهي تتنقل في روتينية يومية بين المكاتب المختلفة داخل المزرعة، دون جديد عن الأيام السابقة. ولكن هذا العمل الروتيني ينبغي أن يسير مع التزامات واضحة تضعها السلطة المنتخبة التي ترأسهم. فالأولوية الأساسية هو احترام اللوائح والقوانين الموضوعة بأي ثمن، وعدم التفكير في كسرها أو تخطيها، حتى وإن كان لسبب إيجابي.
* أحداث الرواية
تدور أحداث الرواية في البداية، حول هروب جماعي لأصحاب المزارع التي تضم العديد من الحيوانات، بعد ارتفاع مشاعر الاستياء لدى الحيوانات وصعوبات الإدارة. وفجأة تجد الحيوانات نفسها بدون شخص يحكمها، وأنهم يمكن أن يفعلوا كل شيء. وبالفعل، تتفق حيوانات إحدى المزارع على تغيير نظام الإدارة واسم المزرعة إلى "جمهورية البحيرة"، ويكون شعارها الديمقراطية العامة و"الحرية للجميع".
وخلال الشهور الأولى، يتم انتخاب سلطة جديدة بحرية ونزاهة، ليصبح الخنزير بلاتون، هو رئيس الجمهورية الجديد، ويسير الوضع جيدا لفترة وجيزة وفق القوانين القائمة حيث يزداد الإنتاج، وتزدهر التجارة مع المزارع المجاورة وفق النظام الليبرالي الذي تم إقراره ومؤسسات فعالة لتسهيل التبادلات. لكن بلاتون يبدأ تدريجيا في تخريب القوانين القائمة مدعوما من "المستفيدين" والمشاركين له في السلطة، وذلك بذرائع الديمقراطية والازدهار.
وخلال الرواية، يحاول بلاتون أن يزرع داخل الحيوانات فكرة أن المزرعة هي أمهم الثانية وأنها الحل لكل مشاكلهم، وينبغي الاعتماد عليها كليا، قائلا "ينبغي أن تكون المزرعة أمّا لنا جميعا، أمّا تحمي أطفالها من المخاطر، وتمنعهم مما يمكن أن يكون سيئا عليهم، حتى وإن كانوا لا يعرفونه". ونجح بلاتون في خلق مواطن عالة على الدولة يفتقد حق الاختيار.
وبدأت الخطابات السياسية تعتمد الريبة والتشكك وتفرض نفسها على التشغيل الجيد الذي كان سائدا، وأخذت الانحرافات البطيئة وغير المحسوسة للنظام في الظهور مع إقرار ضريبة على التبادلات التجارية الحرة للأفراد تحت مسمى "التنسيق التجاري لزيادة الانتاج"، إذ أكد بلاتون بإيعاز من مستشاره جوبيل -الثعلب الانتهازي والماكر- "أننا لو تركنا كل شخص يفعل ما يشاء فإن المجتمع سيكون فريسة للفوضى".
ومع هذه السياسات، تزداد الصعوبات المالية، ويبدأ بلاتون في اتخاذ سياسات مضادة، ويطلب من المواطنين زيادة الخدمة العامة والتطوعية، والاعتماد على البيروقراطية المتزايدة. وتبدأ المزرعة الجديدة في الانهيار شيئا فشيئا تحت وطأة اللوائح الجديدة والمحسوبية والضوابط الموضوعة للسيطرة على كل شيء. وأمام هذه الانحرافات، ظهرت لهجة جديدة من النقاشات تتساءل حول ماهية الديمقراطية والانحرافات التي تسببت فيها.
وبانتهاء الفترة الأولى لبلاتون، ينتابه الرعب من عدم انتخابه وفقدانه المزايا التي يوفرها المنصب له، ومن هنا تأتي نصائح جوبيل بأنه ينبغي إقناع الناخبين أن بلاتون لا غنى عنه رغم فشله المنهجي: "الرغبة هي الذراع الذي ينبغي أن نستخدمه لتحويل أذهان الحيوانات تجاه أشياء أخرى لن تغير رصيدك لديهم، لكن ستخدم صورتك. ألا ترى أن عدم المساواة قد تزايد منذ أن أصبح كل واحد يحصل على دخل كبير من عمله؟ ينبغي أن تكون عدم المساواة نقطة دخولنا لقلب الحيوانات". لقد كان جوبيل على صواب، فمنذ أن أصبح كل شخص يعمل لصالح نفسه ويحصل على أمواله من جهده ومهارته، تزايدت الفروق الاجتماعية بين الحيوانات نتيجة اختلاف الدخل. هذا الفرق سيعود إلى الصفر، حينما لا يصبح أي أحد يملك شيئا، أنه توجه سياسي يسمح بالتدخل القسري للدولة ومؤسساتها العامة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية للأفراد بحجة جلب المساواة.
ولضمان انتخابه أيضا، لجأ بلاتون إلى اثنين من المفكرين الآخرين، لتسهيل مهمته لدى الناخبين، أولهما القط سافونارول -المحتال والداعية ذو الكاريزما والمستنير- الذي يلعب دورا في تبرير الخضوع الجمعي للسلطات الأرضية تحت مسمى الرغبة الإلهية. الثاني هو حيوان الخلد (آكل الحشرات) جيان -الخبير الاقتصادي والماهر في تقديم أوهام اقتصادية- الذي تقدم بمشروع "خطة إعادة" لخفض العمل الفردي وزيادة العمل العام تحت ذريعة التخلص من عدم المساواة المتزايدة، ومن يعارض هذه الخطة الجديدة يتم وصفه بأنه يميل لمصلحته الفردية على حساب المجتمع.
وتحت اسم المصلحة العليا والجماعية وخدمة الوطن "المزرعة"، يتم إقرار سياسة "الاستعباد الوطني"، ومع اقتراب الشتاء، يعمل نصف الحيوانات في المزرعة في "الخدمة العامة"، لكن لا يتم تحقيق أي مخزون. ومع ازدياد الوضع سوءا، يصدر بلاتون لائحة من القوانين الجديدة تهدم كل القوانين والحريات المتفق عليها حينما تم إقامة المزرعة، أول هذه القوانين أنه "كل ما ليس مسموحا محظور".
وبنصائح من جيان، قام بلاتون بطباعة أموال كثيرة، وتعيين المزيد من الموظفين في القطاع العام المنهار، وإطلاق مشروعات وهمية، غير أن هذا تسبب في انفجار جديد للمطالب والأسعار، الأمر الذي تطلب تخفيضا كبيرا للعملة، أفسد وضع الادخار لدى الحيوانات، وازدادت البطالة، وبدأ بلاتون في التلاعب في الأرقام والإحصاءات الرسمية.
الصوت الوحيد الشجاع أمام هذا الجنون والانحطاط الجماعي، كان للحصان "راندي"، الذي انتقد سياسات بلاتون وشكك في جدواها، لكنه تعرض لحملة سخرية واسعة من السلطة، ووجهت له تهمة عظمى بمحاولة كسر "منظومة الخدمات العامة"، وانتهى به المطاف للهروب خارج البلاد والمساهمة في ازدهار المزارع المجاورة.
يتفتق ذهن بلاتون بحل جديد يراه معجزة، لقد حان الوقت للاستدانة من المزارع المجاورة، لملء بطون الحيوانات وضمان إعادة انتخابه لمرة ثالثة. وأخذ بلاتون يدافع عن موقفه لدى حيوانات مزرعته بأن المزارع الخارجية مزدهرة، لكنها غارقة في جحيم الفردية المتعصبة، مركزا على زرع مشاعر الاستياء لدى حيوانات مزرعته ضد باقي المزارع، وواضعا قيودا على زيارات الحيوانات الخارجية للمزرعة، ومتغنيا بشعارات وهمية مثل القدرة على تحقيق الاكتفاء الذاتي في أقرب وقت.
لكن مع تزايد الديون وفقدان المصداقية، ترفض المزارع المجاورة تقديم المساعدة، لذا تنتشر المجاعة في المزرعة، ويزداد التضخم، ويظهر سوق سوداء ترافق هذه المأساة. وأمام ذلك يبدأ بلاتون تحويل الجمهورية إلى دولة شمولية، بفرض قوانين قاسية على الجميع.
ومع مجيء انتخابات جديدة، ظهر منافس قوي ومغرور، وهو الفأر ماكمليان، الذي تبنى مشروعا أكثر استبدادية لكنه بات يجذب أنظار الحيوانات كسبيل للخلاص من بلاتون، غير أن الرئيس القائم اتخذ شعارا جديدا، وهو أن المواطنين أصبحوا لا يريدون الحرية، وأنهم عاجزون عن الاستمتاع بها، وأنه ترضيهم هذه العبودية التي يعيشونها لصالح الوطن.
* الأنظمة السياسية تحاول التحكم في كل شيء في حياتنا
يقول بابو، في الفصل الثاني في روايته الذي يتناول حوارا بين مجموعة من الحيوانات تعمل في هيئة إعلامية تم انشاؤها لنشر الأخبار على سكان المزرعة "في الواقع، تقصد إدارة الهيئة الإعلامية السيطرة على كل ما يصل إلى آذان الحيوانات سواء الموظفين أو المشاهدين والمطلعين على المواد المقدمة من الهيئة." ويتحدث بلاتون قائلا "لا ينبغي أن نقلق الحيوانات، السعادة هي أمر نفسي، لا ينبغي أن نضع صرصورا في رأس الحيوانات بنشر أخبار وقصص سيئة".
يصور بابو أيضا المذيع مثل الروبوت الذي يكرر ما يقوله دون تفكير، فها هو البلبل أورفي، الذي يتدرب على أن يحفظ عن ظهر قلب نص ما سيذيعه على الحيوانات "المشاهدين"، ويقوم بتكرار هذه الرسالة العديد من المرات بشكل ممل ودون تفكير داخل المبنى قبل أن يقوم بإلقائها.
ويجيب بابو في روايته عن سؤال: كيف يمكن الوصول إلى دولة استبدادية وديكتاتورية باسم الديمقراطية؟ موضحا، في حوار مع مجلة "لوبوان" الفرنسية، أن الأنظمة السياسية القائمة تتجه إلى انحرافات تجعلها تقترب من الديكتاتوريات لكن بشكل جديد وطبيعة جديدة، وذلك عبر قوانين صارمة موضوعة تسلب منا الحريات الفردية والأساسية، فعلى الرغم من أن جورج أورويل كرس حياته من أجل مواجهة الفكر الشمولي والدفاع عن حرية التعبير وحرية التصرف والكتابة، إلا أنه وبعد قيام أنظمة ديمقراطية منتخبة، نلاحظ أن هناك توجها ديكتاتوريا ولكنه مؤطر بالقانون.
يتابع بابو قائلا إن آلية هيمنة وعلو فكرة "الدولنية"، وتدخلها الانتهاكي المستمر والمتزايد في الحريات الفردية والعامة، جعل الأنظمة السياسية القائمة لا تختلف عن القبضة الشمولية السابقة، فنحن أمام "دولة" باتت تتدخل في كل أوجه حياة المواطن، ما نفعله وما نقوله، وحتى ما نفكر فيه، إنها نوع جديد من الشمولية وهي الشمولية الناعمة، التي تتمثل هيمنتها في "مخدر"، يتم زرعه في المواطن تحت ذريعة "الحماية والأمن" والعديد من الشعارات الاخرى.
تعكس الرواية تبني السلطة هذا المنطق المضلل للجماهير، إذ يقول بلاتون قبيل إعادة انتخابه أول مرة "للأسف الحرية للضعفاء تشكل مخاطرة عليهم، وحمل ينبغي أن نساعدهم في حمله. للأسف يتجذر في الطبيعة الحيوانية الاهتمام بالمصلحة الخاصة، وهو تصرف أناني وسيء على الجماعة، إذ تصبح هذه المصالح متقاطعة مع مصلحة الجميع، فالذي يكسبه الشخص، يخسره الآخر، ولا يصل أحد أبدا إلى غاياته إلا بالتسبب بالحرمان بطريقة أو أخرى لأحد أخوته في الوطن، لذا، فمن واجب المزرعة التوجيه والتحكم وتقليل هذا الميل الأناني من أجل ضمان المصلحة العامة".
ويقدم بابو، بلاتون أيضا، على أنه خنزير خبيث ويحب الثراء، فبمجرد انتخابه رئيسا، يبدأ التمرغ في الترف ويبرر مستوى حياته الجديد الذي يشبه الملوك، بأنه ينبغي إظهار قيمة منصبه ومكانة مزرعته في الخارج.
وأضاف بابو -الذي عمل كمستشار وزاري في حكومة فرانسوا فيون في عهد الرئيس السابق نيكولا ساركوزي مما يجعله على دراية واسعة بكواليس السياسة- أن الدولة أصبحت تفرض علينا قوانين تحد من حرياتنا تحت شعارات لطيفة تشبه شعارات الشموليات القديمة، مثل "من أجل أمنكم"، و"من أجل رفاهيتكم"، أنها تبريرات منظمة للوضع العام للمواطنين، ولكننا لا نكتشف أن هذه التبريرات تحمل إشارات قمعية.
ويقول إنه "بسبب هذه التبريرات اللطيفة، أصبح المواطنين عاجزون عن ممارسة خياراتهم، وتحمل تصرفاتهم، لقد أصبحنا مثل الأطفال المحميين، حتى من أنفسنا. أصبحت هذه التبريرات، بمثابة مداخل للأنظمة السياسية لفرض خياراتها علينا".