أحدث الأخبار
الحياة ليست دائما على النحو البائس الذي نراه واقعا، وإنما هي دفق شلالات من العزم، وهي إرادة تصنعها فكرة نؤمن بها حين تعيد صياغة رؤيتنا للحياة. هذه النظرة قد تجعلك أحد أعمدة التغيير في زمن غياب الأفكار الكبرى التي تمنح الإنسان أولاً وقبل كل شيء الإحساس بإنسانيته وبكرامته، وأنه ليس تابعاً لعادات المجتمع بل يغيرها، طالما لا يخالف الدين والأخلاق.
ومثل هذا التفكير المختلف شَكَّلَ إرادة حرة لأنثى نوبية طموحة.. هناء عثمان.. جعلها لا تفرق في العمل بين المرأة والرجل، فخاضت ساحات الرجال، لتتفوق عليهم وتكون أول "مقاول ست" يصارع ذوي العضلات المفتولة فيما يجيدون فتصرعهم وتغالبهم، بحصولها على مناقصات رصف طرق عامة، وتشطيب مبان كاملة، حد التعاون مع القوات المسلحة في مهام صعبة بمجال"المقاولات" لا تليق سوى بأصحاب الهمم العالية في تحمل المسؤولية.
كوكتيل إبداع يسير على الأرض، فلا يقتصر نشاط بنت النوبة السمراء على رصف الطرق، بل تنوع ليشمل أيضا مشاركتها في تنمية المجتمع المدني، من خلال تأسيس جمعية "المستقبل" فتتحول إلى "سوبر وومن" تجيد أشياء كثيرة.. مقاول صباحاً، وأم لثلاث فتيات بعد الظهر ورئيس جمعية خيرية في العطلة الأسبوعية.
تمردت على عادات مهترئة تمنع النوبيات من الزواج من غير النوبيين. تزوجت من طبيب يسمونه ومن يشبهه في حدود قريتها "البِيِضْ" بسبب بشرته الفاتحة، لتقطع عائلتها الصلة بها وتغلق في وجهها باب صلة الرحم.
لكن هذا التحدي يتضاءل أمام كفاحها وهي تحمل مسؤولية ثلاث فتيات بعد طلاق وضع حد لزواجها الذي دام سنوات.
رحلة كفاح
"ثمانية عشر عاماً هي عمر مهنتي التي يحتكرها الرجال، مرت بكل بؤسها وما تحمله من شقاء إلا أن النهاية حُسمت للمجتهد، صحيح أن لكل مجتهد نصيب".. بتلك الكلمات بدأت هناء سرد حكايتها وكيف أصبحت أول "مقاول ست". وتقول "تخرجت من كلية الدراسات الإسلامية شعبة شريعة وقانون جامعة الأزهر، ورغم ذلك أعمل مقاول ومدير مشروعات بشركة خاصة، وفي مهنتي تفوقت على كثيرين، واستطعت الحصول على مناقصات كثيرة وكبيرة كانت هدفا لبعضهم، إلا أن السمعة الطيبة والعروض التي تقدمها شركتي لا يمكن لأحد رفضها".
تستكمل بحماس قائلة "بدأت مهنتي كوسيط عقاري واستثمار أراضي، لمدة عامين، ثم من خلال علاقاتي الجيدة بأصحاب المصانع وشركات المقاولات وثقتهم فيَّ، كنت أوفر لهم شغل، وبدأت أتقدم لمناقصات المشروعات، وأفوز بها لحساب غيري وأحصل على عمولة عن ذلك ثم تطور الأمر لمرحلة الإشراف على التنفيذ بشكل كامل".
و تقول هناء عثمان إنها تشرف على مشروعات منها ما يتعلق بالصيانة، أو بالمرافق كالطرق والمياه والري "باختصار أعمل في كل ما يتعلق بالبنية التحتية."
وبفرح طفولي وصفت هناء أول مشروع نفذته بقولها "زي الطفلة لما تفرح بفستان العيد". وأضافت أن المهمة كانت بالتعاون مع القوات المسلحة، وتخص رصف "الطريق الإقليمي".
وأشرفت على مشاريع مهمة منها حي الجمرك في الإسكندرية، ومشروع مهبط الطائرات بمنطقة كرير، وتدبيش سور بير خمسة بسيدي براني، وشبكات الصرف الصحي المحيطة بمطار سيدي براني، وبئر خمسة، كذلك بعض المباني المتعلقة بالقوات المسلحة في منطقة "حباطة"، كذلك مشروع التسوية في الطريق الإقليمي الواصل بين القاهرة والعلمين.
وتقول السمراء النوببة عن شركائها في العمل "منهم من يتقبلني بانبهار وكأخت لهم، لأنني أفرض على الناس كيف تعاملني، وآخرون يندهشون بسبب موروثهم الثقافي ومجيئهم من مناطق عمل المرأة بها نادر فما بالنا إذا كانت تعمل في تلك المهنة."
أُنوثة مهدرة لتحقيق أحلام تأبى التأجيل
فنجان القهوة المُرِّ الذي اعتادت تجرعه حد السهر فجراً، يشهد لصبر طالت أيامه في مواجهة المحن، لتصنع لنفسها طريق نجاح تقتات من ثماره هي وبناتها الثلاث، ولكن كما هي الحياة فلكل شيء ثمن.
تقول سمراء النوبة "سرق مني العمل عمري كأنثى، وجزءا من وقتي كأم، والمشاركة في الحياة الاجتماعية .. وأعطاني الصبر وحب النجاح والناس وخدمة البسطاء، ومواجهة الصعاب وقدرة تحمل مشاق أن تكوني أنثى ومطلقة ببلاد تؤمن بأن المكان الطبيعي للمرأة هو منزلها."
وتتابع هناء، "ربيت بناتي على الفضيلة وحب الخير، وعلمتهن جميعا حتى صرن جامعيات يشهد لهن الجميع، رغم ما كان يأخذه العمل من وقت هن الأحق به، إلا إنني لم أقَصِر معهن في شيء من حيث الاهتمام أو الأموال فنشأن زهراوات يجدن الطبخ مثلما يجدن التحدث بالعربية والانجليزية".
ولسمراء النوبة فلسفتها الخاصة أيضا تجاه تربية المطلقة لبناتها، تتلخص في أن الواقع يُكَذِّب ما يتداوله المجتمع من أن أبناء المنفصلين يعانون عدم اتزان نفسي وغير أسوياء، وتضرب مثالاً ببناتها الثلاث"بناتي من الأوائل في دراساتهن، الأولى ليسانس حقوق تخرجت بتقدير عام جيد جدا ومتزوجة، والثانية تدرس بكلية الصيدلة، والثالثة في الثانوية العامة."
"كوكتيل" أنشطة ونجاح
لم تكتف هناء بكونها "مقاول" وتتحمل عبء تربية ثلاث فتيات بمفردها، فساهمت في مساعدة غيرها من خلال العمل الاجتماعي، وتقول "أسست جمعية (سيدات الإسكندرية) والتي تهتم بالمرأة وبكفالة اليتيم والأسر المعنفة والمرضى وذوي الإعاقة. كذلك شاركت في تأسيس جمعية المستقبل وأعمل كأمين عام الجمعية منذ عام 1999."
وعن أنشطة الجمعية تقول: "لدينا مركز تأهيل للمعوقين، ونادِ للعلوم والمبتكرين، ولدينا من اخترع دواء من قشر الخيار لمرض السرطان وسجلنا له براءة اختراع، كذلك لدينا أنشطة ومشاريع للسيدات المعيلات، حيث نأتي لهن بأقمشة لتفصيلها ونسوق نحن الإنتاج، ومشروعات أخرى كتصنيع المنظفات".
خدمات كثيرة تقدمها سمراء النوبة لبناتها وللمجتمع، لا تخلو من عراقيل تتحدث عن أصعبها فتقول "من أصعب المواقف التي قابلتني كان أثناء ذهابي مع وسيط لموقع العمل لمعاينته، وكان بمنطقة صحراوية، وتعطلت بنَّا السيارة، وكانت الحرارة حارقة، وظللنا عالقين في الطريق إلى أن غابت الشمس، وكدنا نبيت في أماكننا، ورغم احترام شديد عاملني به من معي من رجال إلا أني شعرت بوحشة ليس ممن معي ولكن من الحياة وغرابتها".