أحدث الأخبار
إما أن ترحل الثروات حيث يوجد البشر وإما أن يرحل البشر حيث توجد الثروات"..هكذا لخص العالم الديموجرافي الفرنسي ألفريد صوفي إشكالية الهجرة. إذا كنت تعاني في وطنك، وتشعر أن حياتك تبدو أكثر صعوبة وتعقيداً، تخبرك تجارب من سبقوك أن لا فائدة من شهاداتك الدراسية، لا وظائف، لا تعليم جيد، لا منظومة صحية يُعتمد عليها، حتماً ستُفكِّر في حل نهائي لهذه المعاناة وهذا الواقع المؤلم. وقتها لن يفرق معك شيء، ستضع نصب عينيك وبإلحاح حلم حزم حقائبك واستقلال أول وسيلة خروج من هذا الواقع، ولو كانت قارباً متهالكاً، يُستخدم لصيد الأسماك، يحملك بطريقة غير شرعية، لبلاد ترى فيها فرصة حقيقة لتحقيق ذاتك.
وتبقى الهجرة بهذه الطريقة حلماً لكثيرين من أبناء الوطن رغم الكوارث التي يمكن أن تتعرض لها تلك الرحلات، وأحدثها غرق مركب رشيد التي كانت تقل 600 مهاجر بينهم كثير من المصريين يوم 21 سبتمبر الماضي.
الحياة التي يطمح لها الشباب المهاجر يرون طرفاً منها قبل هجرتهم من قراهم.. شاهدوها رأي العين في صورة قصور ذات قباب عالية، شيدها من سبقوهمونمط حياة ينتمي إلى عالم آخر تعيشه عائلات المهاجرين. وتتركز آمال الشباب على الانتقال إلى ذلك العالم رغم ما يرونه أيضا أمام أعينهم من آثار سلبية اجتماعيا.
أبعاد أخرى
ثلاث قرى ترقد في أحضان النيل بمحافظة الغربية، زارتها "أصوات مصرية"، وهي"ميت حبيب وميت بدر حلاوة وأبو صير"، لتستمع إلى روايات أبنائها المولعين بالهجرة إلى أوروبا وتعاين التغيرات التي طرأت على تلك القرى. موجات الهجرة بدأت منذ ثمانينات القرن الماضي، ورغم حداثة عهد هذه القرى بالهجرة إلى أوروبا، إلا أن ملامح الخريطة الاجتماعية والاقتصادية والسكانية والتعليمية بها تغيرت إلى غير رجعة فيما يبدو، ما يُنذر بتغير عام لقرى مصر، خاصة مع ارتفاع نسبة الهجرة غير الشرعية بالبلاد.
القصة لم تتوقف عند الموت بل تجاوزتها إلى تأثيرات سلبية لم يعرفها الريف المصري من قبل، شملت التغيرات جوانب كثيرة، أكثرها غرابة إقبال متزايد من طلاب الإعدادي والثانوي على الهجرة غير الشرعية، تاركين فصولهم الدراسية خاوية على عروشها، بحثاً عن الجنة الموعودة بعيداً عن الفقر والبطالة في قرى سقطت من ذاكرة الحكومات المتعاقبة.. أيضاً ارتفاع حالات الطلاق وتعدد الزواج، والتحدث بالفرنسية وترك العربية، وارتفاع المهور.
كذلك أصبح" اليورو" لغة تعاملهم اليومية وعملتهم "الرسمية" دون الجنيه المصري. من كان ثرياً قبل عقود أصبح يُنظر اليه على أنه من الفقراء، ومن كان فقيراً أصبح ثرياً، ولعل أخطر ما سببته تلك الهجرة أن جعلت القرى الثلاث "قرى بلا شباب" يغلب عليها الآن كبار السن والنساء.
وتقدر منظمة العمل الدولية معدل حجم الهجرة غير الشرعية بـما بين 10-15% من عدد المهاجرين في العالم، أما منظمة الهجرة الدولية فتقدر حجم الهجرة غير القانونية في دول الاتحاد الأوروبي بحوالي 1.5 مليون فرد.
القرى تُغَيِّر جلدها
وتسببت الهجرة وما يجنيه الناس من أموال أوروبا في تغير الخريطة الاجتماعية والسكانية والاقتصادية والتعليمية لقرى"ميت حبيب، ميت بدر، وأبو صير".
ويقول عبد اللطيف سلامة من قرية ميت حبيب "قرانا هي الأغنى والأغلى في مستوى المعيشة والمهور، حيث يتعدى المهر مليون جنيه، كذلك تبدل حال أبناء العائلات وسط غناء فاحش جناه فقراء أمس، بعدما هجرها الشباب، كما هجر طلاب المرحلتين الإعدادية والثانوية مدارسهم، وارتفعت معدلات الطلاق، وأصبح اليورو هو لغة التعامل الرسمية للمعاملات اليومية من زواج وتجارة، حتى وصل سعر قيراط الأرض إلى مليون جنيه".
ويمنع القانون الإيطالي ترحيل القصر من المهاجرين غير الشرعيين مما ساهم في زيادة إقبال المراهقين على الهجرة.
ويتفق معه عماد محمد من قرية أبو صير، فيقول"التركيبة السكانية اختلفت منذ الثمانيات حيث تراجع عنصر الشباب من القرى الثلاث وبقي على أرضها كبار السن والزوجات والأبناء، فأفرز مشاكل اجتماعية مثل ارتفاع معدلات الطلاق وتعدد الزوجات، في ظل اقبال هؤلاء الشباب على الزواج من أجنبيات دون مراعاة فرق السن من أجل الحصول على جنسية هذه البلدان الأوربية التي باتت حلم كل شاب في هذه القرى."
كشفت مأساة مركب الموت في رشيد عن أزمة متفاقمة يقول عنها عماد محمد "يلجأ طلاب المرحلتين الإعدادية والثانوية إلى ترك فصولهم الدراسية، ما يُبشر بخطورة ستواجهها مصر في الفترة القادمة، أيضاً أصبح لدى فقراء تلك القرى صعوبة كبيرة في الزواج وإحساس قاتل بالعجز، نظراً لعدم قدرتهم مسايرة ومعايشة أغنياء القرية العائدين بأموال الغرب".
ويتابع أن الاطفال بدأوا يتحدثون الفرنسية وكذلك الزوجات ولم يعد أحد يهتم بلغة القرآن كما عهدت القرى المصرية من قبل.
ويعقب صالح فرهود رئيس الجالية المصرية بفرنسا"إبتعاد المهاجرين غير الشرعيين عن منازلهم يفتح الباب أمام علاقات غير سوية تحدث في الخفاء".
شهادات نسائية
وعن التغيرات الاجتماعية الطارئة على المجتمع الريفي تتحدث رشا الحارتي مدرسة لغة عربية، والتي سافرت مع زوجها إلى فرنسا فعايشت مشاكل تلك الهجرة وما تجلبه على الأسرة من مصاعب.
وتقول إن "الأطفال أول من يدفعون الثمن، ثم المرأة بفقدها لأنوثتها، وتحولها لرجل يتحمل كافة أعباء الأسرة، خاصة أنها تنتظر عشر سنوات، وهي المدة التي يبعد فيها الزوج للحصول على أوراق الإقامة، لا يرونه خلالها ولو لمرة لأنه مهاجر غير شرعي. وعلى أفضل الأحوال يتم تهجير الأسرة فردا فردا حتى يجتمعون هناك، ويستغرق ذلك أعواماً تتحملها المرأة على أمل ثراء تحظى به أسرتها كغيرها ممن سبقوها. لست ضد السفر، ولكن معه إذا كان بشكل صحيح بحيث يكون هناك، عودة وإجازة سنوية يرى فيها الزوج أولاده وزوجته."
تتفق معها سناء ربيع* من قرية ميت بدر حلاوة إذ تقول: "الأطفال أحياناً يتطاولون علينا، وللتخلص مما نمر به أحياناً تطلب الزوجة من زوجها الزواج بفرنسية للحصول على الجنسية وأوراق الإقامة ومن ثم النزول إلى مصر بسهولة، وبعضهم يضطر إلى نسب أولاد تلك المرأة الأجنبية اليه، لتسهيل أوراق الجنسية".
وتشير سناء ربيع إلى نوع آخر من المشاكل هو الأكثر خطورة على المجتمع الريفي إذ تقول:"المرأة التي يتركها زوجها تكون ضحية لأي نفس دنيئة، تتحرش بها من خلال الهواتف المحمولة، وقد تنشأ علاقة غير شرعية، إلا أن الأمر يكون طي الكتمان فقد "تطير فيها رقاب". وفي المقابل فإن أحدانا لا تستطيع التزين ولو لنفسها طالما أن زوجها غاب عنها وحدث أن طُلقت إمرأة لانها كانت تضع مساحيق التجميل ".
لكن عزت المحلاوي عضو البرلمان عن دائرة سمنود غربية يرى المسألة من زاوية أخرى. ويقول "اللوم كل اللوم على من يهاجر هجرة غير شرعية، مصر بها من العمل ما يكفي أولادها فلمَ السفر." ويتابع "المهاجرون يتحايلون على دول أوروبا بالزواج من أجنبيات للحصول على الجنسية، لكنني لم أصادف مشكلة واحدة تتعلق بالتفكك الأسري، أو الانفلات الأخلاقي."
قرية الـ20 ألف مهاجر
ورغم تلك الجوانب السلبية إلا أن للهجرة وجها آخر يبدو أنه يغلب على رؤية أبناء القرى الثلاث للهجرة. فقرية ميت بدر حلاوة، والتي تُعرف باسم "باريس مصر"تنعم بخدمات تؤهلها للقب "القرية النموذجية" حيث بها أكثر من مستشفى متطور ومدرسة خاصة، ومحطة لمعالجة المياه، جميعها بالجهود الذاتية مقارنة بدعم من "بيت العائلة بفرنسا" الممول من المهاجرين.
ويقدر أهالي "ميت بدر حلاوة" عدد المهاجرين من أبناء القرية بحوالي عشرين ألف مهاجر."
ليس غاية ما يبحث عنه المهاجر غير الشرعي هو المال، فربما حمل في جعبته الخير لبلده وجيرانه، مثل ما فعله أهالي ميت بدرحلاوة، من إقامة جمعية"بيت العائلة" ومقرها فرنسا، لتخدم قرابة 45 ألف نسمة هم عدد سكان القرية. وبفضل جهد الجمعية ترى الشوارع نظيفة، مرصوفة الأزقة، مبانيها شاهقة، وبها قصور ذات قباب عالية وطراز باريسي أنيق يفوق فيلات منطقة التجمع الخامس الفاخرة بالقاهرة.
ويقول مسعد السعيد حامد من مهاجري القرية، سافرت إلى فرنسا منذ أوائل التسعينات، كانت هجرتي غير شرعية عن طريق " كسر الفيزا"، عملت بجد واجتهاد وتزوجت من فرنسية وصرت مثلهم مواطنا أنعم بكافة الحقوق، ولم ينسيني هذا أنا وغيري أهلنا، فقمنا بانشاء جمعية "بيت العائلة" بهدف تنظيم حياة المصريين بفرنسا، وإدارة شؤون القرية بمصر، وهي قائمة على الجهود الذاتية، كل منا يشارك بما يستطيع ولا نجبر أحدا.
وعن أنشطة الجمعية يقول مسعد "هي كثيرة، بداية من رصف الأزقة وإنشاء مشاريع للنظافة وجمع القمامة، مروراً بالأعمال الخيرية ومساعدة الفقراء، وانتهاء بإنشاء مستشفيات متطورة ومدارس، وغيرها من الخدمات".
ويقول صالح فرهود رئيس الجالية المصرية بفرنسا ومؤسس "بيت العائلة" إن المشروع يخدم كثيرا من المهاجرين في فرنسا والآلاف من أهالي القرية، ويضيف:"أسسنا بيت العيلة عام 2011، ويضم رئيسا وتسعة أعضاء، يتم اختيارهم بالانتخاب، والهدف منها إقامة مشروعات لخدمة القرية ومساعدة المحتاجين"
أنواع الهجرة غير الشرعية وأسعارها
"الفقر في الوطن غربة"، تعبير قاله الأجداد بقرى الغربية الثلاثة، تحول إلى واقع يدفع أحفادهم إلى ركوب قوارب الموت طمعا في ثراء لا يكلفهم سوى 30 ألف جنيه على الأكثر، في رحلة الهجرة غير الشرعية. ويقول ناجي الإمام (48 سنة) أحد المهاجرين غير الشرعيين إن "الهجرة غير الشرعية أنواع، إما عن طريق كسر الفيزا، وإما عبر البحر، وإما عن طريق "الشبه" وهو أن يقوم أحدهم باستخدام جواز سفر لشخص شبيه له". ويتابع أن "أسعار كل طريقة تختلف عن غيرها، فأولا كسر الفيزا كان قديما منذ سافرت في الثمانينات ولا يلجأ له الآن إلا قلة، بينما تعتمد الغالبية العظمى على الهجرة عبر المراكب وأسعارها 30 ألف جنيه تقريباً، أما النوع الثالث فأسعاره على حسب ما يتفق عليه الطرفان. "
ويهاجم الإمام من ينتقدون المهاجرين غير الشرعيين قائلين إن من معه ذاك المبلغ لماذا يلجأ إلى تلك الهجرة. ويقول إن التكلفة "لا تسدد دفعة واحدة، وقد يسددهاالمهاجر على فترات من عمله بالدولة المهاجر إليها، وعادة ما يدفع خمسة آلاف جنيه كعربون للوسيط وهو أحد أطراف السمسرة. "
ويعدد الإمام أنواع السماسرة فيقول:"هم مافيا أولهم المندوب: وهو عين السمسار الكبير ويجمع له الأطفال والشباب من القرى المجاورة والتي يعيش فيها، والوسيط: وهو الشخص الكائن بمنطقة الوسط بين المندوب والسمسار الكبير، ووظيفته تنسيقية ويعمل أيضاً على جمع الشباب، والنوع الثالث وهو السمسار، الذي يدير الأمر برمته، من تجهيز القوارب، والتخطيط للعملية كلها منذ جمع الشباب حتى وصولهم إلى دول الغرب."
ويقول محمود خلف من قرية ميت حبيب، إن الشباب يريد عمل المستحيل كي يحظى بفرصة سفر، فبعضهم يبيع ذهب والدته، وبعضهم "يدخل جمعية" كي يوفر تكلفة السفر، وبعضهم يستدين، والغالبية العظمى هنا تهاجر بضمان المندوب على أن تدفع التكاليف بعد كسب المال من العمل بدول أوروبا". ويتابع أن "الجميع يريد الفرار ويفشل مرة ويحاول ثانية وهكذا ولن يردع الشباب عن السفر إلا فرص عمل جيدة ومرتبات معقولة يستطيعون العيش منها، أما غير ذلك مما يتناقله الإعلام "فيبقوا يقابلوني".
*اسم مستعار