أحدث الأخبار
"حظنا السعيد إنه وإحنا طالعين حصلت عاصفة شديدة جدًا مكنش معمول حسابها" لم تخرج هذه الكلمات من شفاه شريف حافظ -31 عامًا- بنبرة من السخرية، ولكن لفظها بصوت مملوء بشغف يحكي عن روعة المغامرة التي عايشها أثناء صعوده جبل المدورة بالفيوم، في أحد برامج مدرسة "مهارات البقاء في الصحراء".
أعرب شريف، خلال حديثه، عن اهتمامه منذ زمن بعيد بالصحراء، بحكم مكوثه لأكثر من 4 سنوات في مزرعة جبلية خاصة بالعائلة، ولهذا قرر أن ينضم لمدرسة "البقاء في الصحراء"، كي يتعلم مهارات البقاء في الظروف الصعبة، والتصرف في أوقات المخاطر، بعد أن أصبحت المدينة مرفهة -على حد قوله- ومن الصعب فيها توقع المخاطر أو التعامل معها.
"مجتمع صغير متعاون متكافئ مافيهوش أي مصلحة أو ربح" هكذا وصف شريف، مجموعة مدرسة مهارات البقاء في الصحراء – عبر موقع التواصل الاجتماعي فيس بوك- والتي انضم إليها منذ عامين، وعبرها استطاع أن يتعايش في صحراء أبو جالوم، وجبل المدورة، والبحيرة المسحورة بالفيوم، التي شهد بها عاصفة شديدة بدون أي مقدمات، فاضطر الفريق للمشي 2 كيلو ونصف، أثناء العاصفة كنوع من أنواع التعايش مع مخاطر الصحراء.
أول مدرب في مصر
أصوات مصرية التقت مع "أحمد سالم" – 40 عامًا - مدرب لمهارات البقاء على قيد الحياة في مصر، ومؤسس مدرسة الصحراء، والتي تنظم دورات ورحلات تطوعية لتدريب الأفراد على مواجهة أي موقف في الصحاري أو البيئة البرية.
أسس "سالم" مدرسة الصحراء عام 2013، بعد أن درس مهارات البقاء لفترة كبيرة بالخارج، بسبب عشقه للصحراء، وقام بالعديد من الجولات في الجبال والصحاري داخل مصر وخارجها، ومن ثم بدأ إلقاء محاضرات نظرية لشرح الفكرة، ثم ورش عمل، ورحلات صغيرة، ثم أكبر فأكبر، للتطبيق العملي الذي يمنع التربح على إثره - على حد قوله - حيث تقسم تكلفة الرحلات على المجموعة بالتساوي.
توسعت مدرسة الصحراء، حتى أصبح "سالم" ورفاقه يدربون المجموعات التي تنظم رحلات رصد النجوم، والتي تشد الرحال لصحار في أجواء جوية معينة لرصد وتصوير أشكال النجوم التي يصعب مشاهدتها في سماء المدن.
ويشرح هشام يسري، أحد منظمي تلك الرحلات، أنهم يشدون الرحال إلى الصحراء في الفترات التي يغيب فيها القمر، بعيدا عن أنوار المدن على الأقل بـ 40 كيلو مترا، بصحبة أحد المتخصصين من الجمعية المصرية لعلوم الفلك التي تتكفل بالجزء التقني حيث الشرح وأدوات الرصد كالتلسكوبات، لرصد الكواكب التي يصعب رؤيتها بالعين المجردة، ومن ثم يبدأون شرح كل نجم وكوكب وبرج ظاهر على حده وكل ما يتعلق بهم في الأساطير.
شروط الرحلة
وتشترط رحلات رصد النجوم على المشاركين فيها امتلاك كاميرا احترافية عالية المواصفات "FULL FRAME" كي يتمكنوا من التصوير في ظلام الصحراء الدامس، وفقًا لقول هشام، والذي يقوم بتنظيم رحلة واحدة من هذا النوع كل شهر في المعتاد، إلا أن هناك شهورًا تستلزم تنظيم رحلتين، وهي الشهور التي تكون بها ظاهرة زخات الشهب، حيث يظهر 900 شهاب في السماء، كل ساعة، وشهور أخرى لا يمكن بها تنظيم رحلات الرصد، خاصة في الشتاء، حيث السماء الملبدة بالغيوم والأمطار.
ويستطيع هشام ورفاقه من منظمي رحلات رصد النجوم الاستفادة من مهارات البقاء في الصحراء، حيث التمكن من تحديد الأماكن غير الخطرة، التي يستطيع مشاركوهم، النوم والمكوث بها في أمان، بعيدا عن مخاطر الصحراء وكائناتها، قبل أن يقوموا بتنظيم الرحلة.
وتضاعفت أعداد المشاركين بالرحلات في العامين 2015 و2016 بعد انتشار الفكرة، حيث بلغ متوسط أعداد المشتركين في الرحلات الآن من 60 إلى 70 فردا، 20% منهم نساء، في الوقت الذي كان لا يزيد عدد المشاركين المؤسسين للفكرة عن 10 أفراد.
البحث عن المياه والحفاظ عليها، أول دروس سالم لمتدربيه، ومن بعدها البحث عن المأكل والمأوى والحماية من الكائنات البرية. ولكون سالم صيدليا، يدرب سالم مجموعاته على عمليات الإنقاذ والإسعافات الأولية، في رحلات بسيطة أشبه بمحاكاة للأزمات التي قد تحدث في الواقع.
الموسم الشتوي هو ذروة رحلات سالم ورفاقه، ولأن الوقاية هي المبدأ الأول في مدرسة الصحراء عند سالم، فيحرص على الحصول على جميع التصريحات الأمنية، وجميع الاحتياطات لمضي الرحلات بأمان.
ويتعمد سالم على وضع متدربيه في مواقف صعبة أحيانًا، كي يدربهم على خوض المخاطر عمليًا، وفقًا لمجموعة من المعايير الدولية، المعتمدة في علوم مهارات البقاء، وهي أن تتناسب أعداد المنظمين والمدربين مع أعداد المشاركين في الرحلة - مدرب واحد لكل 10 مشاركين، والاستعانة بمتدربين قدامى وذوي خبرة مع المجموعات حديثة العهد بمهارات البقاء في الصحاري، مع وجود ملاحظين للمشاركين لرصد أي حالة إعياء بسبب حرارة الجو والتي قد لا يشعر بها صاحبها في بدايتها، بالإضافة إلى وجود مدربين متخصصين للإسعافات الأولية، وآخرين يتابعون تحركات المشاركين وعدم مخالفتهم للتعليمات، من حيث الحفاظ على كميات المأكل والمياه.
ولا يتسنى لأي شخص المشاركة في مغامرات مدرسة الصحراء الكبرى سوى ذوي الخبرة، إلا أن "سالم" ينظم بشكل دوري رحلات للمبتدئين في المناطق القريبة، مثل محمية وادي دجلة في المعادي، بدون أي مقابل مادي، ومن ثم يمرون بأربعة مستويات لإتقان مهارات البقاء في الصحراء، وهى المستوى المبتدئ، والمتوسط، والمتقدم، والمحترف.
تكلفة الرحلات
وتشد المدرسة الرحال إلى الصحاري، التي يسهل احصول على تصريحات أمنية للخوض فيها، مثل وادي دجلة، وسانت كاترين، ووادي الريان، وجبل المدورة، ووادي الحيتان، والواحات البحرية، وتتباين تكلفة الرحلات الكبرى، التي تتراوح مدتها بين الثلاثة أيام والأسبوع، بين 450 جنيها إلى 1000 جنيه، ويكون متوسط أعداد المشاركين في تلك الرحلات من 60 إلى 70 شخصا، في الرحلات الأقل خطورة، ومن 10 إلى 12 شخصا، في المستوى المتقدم. ويحرص سالم على تنظيم 10 رحلات كبرى في العام، بالإضافة إلى الدورات الشهرية، والتي تتراوح مدتها بين اليوم واليومين، للمشاركين الجدد بمحمية وادي دجلة.
الهروب من الزحام والضجيج والدخان، أهم دوافع سالم ورفاقه للتعايش بالصحراء، فالإنسان يستعيد نفسه وفطرته في الصحاري، إلى جانب التحدي في مهارات البقاء التي تكشف للمشارك قدرات لا يعرفها بنفسه.
من البحار إلى الصحراء
لم يستطع عمرو صلاح المدرب والمنظم بمدرسة الصحراء، بعد أن غادر حياته بجوار البحر بالإسكندرية، لظروف العمل في القاهرة، ألا يبحث عن بديل كي يخلو بنفسه في طبيعة موازية، لهذا أسس مع أحمد سالم مدرسة الصحراء، والتي أصبحت تحتوي على 9000 عضو متفاعل، على مجموعة "مدرسة الصحراء" على موقع التواصل الاجتماعي فيس بوك بدون أي دعاية.
وينتقي عمرو ورفاقه المتدربين في المستوى المتقدم على أساس التزامهم بالتعليمات، ومهاراتهم، وتعاونهم مع زملائهم، ومواصفاتهم الجسدية.
ويقوم مدربو مدرسة الصحراء بالإعداد للرحلات قبل موعدها بشهر، من حيث الإجراءات الأمنية، وتحديد خطوط السير، والاحتياجات من مياه ومأكل، ومواصفات الملابس، وموقع التخييم، ومواعيد المشي بالصحراء والغداء، وجلسات التعارف والمحاضرات.
وأول المبادئ التي يحرص عمرو على تلقينها لمجموعاته هي أن الإنسان يستطيع أن يعيش 3 دقائق بدون هواء، و3 ساعات بدون ساتر من الشمس، و3 أيام بدون مياه، و30 يوما بدون طعام، لذا فأولويات مدرسة الصحراء هي تعليم المتدربين الوقاية من درجات الحرارة العالية، ثم الحفاظ على المياه ومهارات الحصول عليها، ومن ثم البحث عن الطعام.
الزواحف أمر عادي
لم تتوقف مغامرات شريف عند مواجهة عاصفة رملية في الصحراء، بل يعتبر الشاب الثلاثيني مواجهة الزواحف كالثعابين والعقارب أمرا بديهيا، فمن تعاليم التعايش في الصحاري، أن الزواحف السامة لا تؤذي إلا من يؤذيها، فإذا مر عليك ثعبان وأنت نائم، لا عليك، فقط دعه يمر بسلام، لأنه إذا تحركت سيلدغك. بينما حينما تستيقظ من نومك في "الطَّل"، فقط عليك أن تنظر داخل حذائك حتى تتأكد من أنه ليس بداخله عقرب يبحث عن الدفء، وحتى إذا قام بلدغك لا عليك، فقط عليك أن تغسل مكان اللدغة بالماء، والانتقال بهدوء إلى أقرب مستشفى، فسم العقرب لا يبدأ مفعولة سوى بعد 4 ساعات على الأقل من اللدغ، وهي مدة كافية لإنقاذك.
جبل أماني
لم تكن أماني -32 سنة- مقتنعة بضرورة التدريب على مهارات التعايش في الصحراء، وهي تعيش في المدينة، إلا أن أحلامها كانت تتضمن زيارة لمحمية أبو جالوم، بجنوب سيناء، والتي شدت مدرسة الصحراء الرحال إليها في مستهل العام الجاري، ومن هنا بدأت علاقة عاطفية بين أماني والعودة إلى الطبيعة وفطرة الإنسان، والعزوف عن التكنولوجيا وصخب المدينة، وجعلها تجوب صحاري مصر.
الإلهام الذي منحته الصحاري لـ "مرقص" - 34 عامًا - والذي قرأ عنه كثيرًا في الأدب الروحي، لم يجعله فقط يؤمن بأن مكوث الإنسان في الصحاري لأسبوع واحد يجعله يعود لفطرته، ويتزامن مع ساعته البيولوجية الأصلية، بل جعله يتحمل إصابة في ركبته بعد 25 كيلو مترا من المشي بجبال سانت كاترين، ويستمتع بحالة التيه التي مر بها هو ومجموعته، أثناء محاولتهم صعود أحد الجبال لمشاهدة الغروب، فأخذت نداءاته تتعالى باسم أحد فتيات المجموعة الضالة، حتى أطلقوا على الجبل اسم "أماني".