أحدث الأخبار
على مر العصور، شكلت المياه أحد الأسلحة الهامة التي يتم اللجوء إليها في الحروب والصراعات، ورغم التقدم التكنولوجي الذي ساهم في تطور الأسلحة خلال العصر الحديث، إلا أن المياه واستهداف مواردها ظلت وسيلة لإنهاء المعركة سريعا وإجبار العدو على تغيير خطته، لكن هناك خاسرا أكبر من العدو في الاستهداف العسكري لموارد المياه، وهو المدنيون أنفسهم.
حتى الغرب الذي يطلق على حروبه الحديثة اسم "الحروب النظيفة"، لم يتردد للحظة في استخدام هذا السلاح لمواجهة خصومه العسكريين، فمن العراق إلى يوغسلافيا ومن افغانستان إلى ليبيا، ومن اليمن إلى سوريا، شملت الحروب التي يخوضها الغرب مباشرة أو بالوكالة استهدافا عسكريا للبنية التحتية التي توفر المياه الصالحة للشرب لشعوب هذه البلدان.
وقال موقع "ميديابار" الفرنسي -في تقرير بعنوان "المياه القذرة في الحروب النظيفة للغرب"- إنه في سبتمبر 2016 نشرت صحيفة "هافنجتون بوست" خبرا مفاده أن محطة ضخ مياه لأحياء حلب الشرقية التي كانت تسيطر عليها المعارضة دمرت بعمليات قصف، ورد المعارضون للرئيس السوري بشار الأسد، بغلق محطة تزود باقي المدينة بالمياه تاركين مليوني شخص عاجزين عن الحصول على مياه الشرب.
وقال التقرير إنه خلال الصراع السوري، استخدمت المليشيات المتمردة وأيضا القوات السورية الموالية للنظام، مياه الشرب كسلاح لنشر الاضطراب في صفوف العدو، في حين أن الخاسر الأكبر كان الشعب، وبما أن الدولة الفرنسية وحلفاءها يدعمون المعارضة ضد الأسد، فإنهم ألقوا وراء ظهورهم مسألة الاعتراض على قيام المعارضة بمنع الملايين من المواطنين من الوصول إلى مياه الشرب، ومع ذلك أدان الغرب الجرائم التي ارتكبها الجيش السوري والقوى الداعمة له.
وأشار التقرير إلى أن التقبل الغربي لمثل هذه الوسائل ليس جديدا، إذ أن أنظمة توزيع المياه في العديد من الدول تم استهدافها خلال "الحروب النظيفة" التي شنتها القوى الغربية وحلف الأطلسي (ناتو) في الخليج ويوغسلافيا وأفغانستان وليبيا، وكذلك خلال الحروب كانت له يد غير مباشرة فيها سواء في اليمن أو سوريا.
- يوغسلافيا وأفغانستان.. هل هي حروب نظيفة وإنسانية؟
في عام 1999، أطلق الغرب حرب كوسوفو، تحت مسمى "حرب إنسانية"، أو "التدخل الإنساني". ويقول البروفسور جان بابتيست فيلمير إن "الحرب الجوية للغرب في كوسوفو كانت كارثة إنسانية... فغالبية عمليات التطهير وقعت بعد انطلاق القصف الغربي، وهناك العديد من الأسباب التي تثير الاعتقاد بأن القصف سرع من عمليات التطهير". وأضاف فيلمير أن اللورد كارينجتون، وزير الخارجية البريطاني السابق والأمين العام الاسبق لحلف الناتو يرى أن عمليات القصف هي التي سببت التطهير العرقي. ورغم أن النتائج السيئة لهذا التدخل العسكري غير معروفة للرأي العام بدرجة كبيرة إلا أنها تثير الشفقة، وتثير شكوكا حول الفكرة التي تحملها الحروب الغربية وهي "الحرب النظيفة"، التي اكتسبت شعبية مع عملية عاصفة الصحراء عام 1991.
وفي يناير 2001، استنكر تقرير للجمعية البرلمانية للمجلس الأوروبي التأثير البيئي لهذه الحملة التي شنها الناتو في صربيا وكوسوفو، وقال إنه " في الفترة بين 24 مارس و5 يونيو 1999، تعرض 78 موقعا صناعيا و42 منشأة طاقة في يوغسلافيا لأضرار القصف بالقنابل والصواريخ، وهو ما أدى إلى تلوث الهواء والماء والتربة بمواد خطيرة".
ووفقا للتقرير، لم يكن التاثير البيئي محدودا في يوغسلافيا التي تمتلك مياه جوفية ذات أهمية كبيرة في أوروبا، إذ أن هذا التلوث قادر على أن يحدث آثارا خطيرة على مساحات واسعة من الأراضي اليوغوسلافية، مشيرا إلى أن الوضع أصبح أكثر خطورة وخارج حدود التنقية الذاتية للمياه.
وإلى جانب تسمم المياه الجوفية، دمر القصف الغربي المنشآت المزودة بالكهرباء ومياه الشرب مثل محطات التنقية، الأمر الذي أثر بشكل واسع على المدنيين، وحولهم إلى ما يشبه "رجال كهوف". وقال تقرير لصحيفة "نيويورك تايمز" حينها، إنه بعد شهرين من عمليات القصف التي بدأت في 24 مارس 1999، فإن حلف الناتو الراغب في شل جهود الحرب الصربية، هاجم بكثافة شبكة الكهرباء في ذلك البلد، وخزانات المياه التي تعتمد على مضخات كهربائية، مما أحدث أضرارا دائمة في هذين النظامين.
ولم يمر سوى عامين حتى أعلن الرئيس الأمريكي، جورج بوش ورئيس الوزراء البريطاني توني بلير، عقب هجمات 11 سبتمبر 2001 عن تشكيل تحالف عسكري-إنساني، قبل شن الهجوم على أفغانستان.
وبالفعل انطلقت هجمات هذا التحالف بعد أسابيع فقط، وكان من ضمن أهداف الطائرات البنية التحتية المزودة بالمياه الصالحة للشرب بل وأيضا استهداف الشبكات والمنشآت الكهربائية التي تسمح للمدنيين باستخراج المياه الجوفية. وبدءا من خريف 2001، عانى الشعب الأفغاني من ثلاثة أعوام متتالية من الجفاف.
وأمام هذا الوضع، شدد مركز أبحاث الطاقة "فروست& سوليفان" على أن ضربات الناتو أثارت "مخاوف جدية من حيث الصحة العامة والنظافة، حيث أن المدن أصبحت بحاجة للكهرباء من أجل ضخ المياه".
وأوضح التقرير أن هذه الدولة تعيش العقد الثالث من الحرب المستمرة التي أنهكت أنظمة الصرف الصحي والري فيها.
- في العراق: المياه سلاح دمار شامل منذ 1991
في بداية عام 1991، أطلقت الولايات المتحدة وفرنسا وحلفاؤهما حربا على العراق، تم تقديمها في وسائل الإعلام على أنها "حرب نظيفة"، لكن التقرير يقول إن ما حدث كان "أكثر قذارة".
وخلال هذه الفترة، انتشرت صور آبار النفط المشتعلة التي استخدمت لتبرير الحرب لدى الرأي العام، حيث نشرت وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) أخبارا تفيد أنه في يناير من نفس العام أمر صدام حسين بتدمير مواقع استخراج النفط بهدف خلق تلوث بحري وجوي وتخريب محطات معالجة المياه ووضع عقبات أمام التحالف الغربي. وأضرمت القوات العراقية النار في 60 بئر بترول في 21 يناير ووصل العدد إلى 613 بنهاية فبراير لتخلق أزمة بيئية.
وذكر التقرير أن وسائل الإعلام الكبرى غضت طرفها عن حقيقة تاريخية أخرى تناقض تماما مصطلح "الحرب النظيفة" للغرب. ويقول الخبير البريطاني نافذ أحمد إن "أرقام الأمم المتحدة التي لم يتم التشكيك فيها إطلاقا، تظهر أن حوالي 1.7 مليون مدني عراقي قتلوا بسبب نظام العقوبات الذي فرضه الغرب في نهاية حرب الخليج، نصفهم أطفال. هذا العدد الكبير للموتى يبدو كأنه كان عمدا، حيث أن من بين السلع التي تم حظرها وفق عقوبات الأمم المتحدة، المنتجات الكيميائية والمعدات الأساسية لتشغيل نظام معالجة المياه في العراق.
وفي خطاب وجهه النائب الأمريكي، توني هال في مايو 2000، إلى وزيرة الخارجية، مادلين أولبرايت، قال "أشاطر منظمة اليونسيف مخاوفها حيال أثر التدهور الدائم لأنظمة الصرف والتزويد بالمياه على صحة الأطفال (العراقيين)، إذ أن السبب الأول للوفاة بين الأطفال أقل من 5 أعوام، هو إصابتهم بأمراض الأسهال الذي أصبح يفوق المعدلات الوبائية ووصلت النسبة إلى 4 أضعاف نسبة المصابين في 1990. القيود المفروضة على العقود في مجال المياه والصرف الصحي هي السبب الأول في ارتفاع الأمراض والوفيات. فمن بين 18 تعاقدا وقعه العراق مع موردين، حظرت الحكومة الأمريكية 17 تعاقدا منهم"، وناشد هال في خطابه الوزيرة بأن تعيد النظر في قرارها بحظر العقود لأن الأمراض والوفيات هي نتائج حتمية لعدم القدرة على الوصول لمياه الشرب وعدم ضمان الحد الأدنى من النظافة.
ورغم المبالغ الطائلة التي أنفقت لإعادة بناء العراق، إلا أن ظروف الحياة لغالبية العراقيين لا تزال مأسوية، لا سيما فيما يتعلق بالوصول إلى مياه الشرب. ويقول أحدث تقرير سنوي لمكتب تنسيق الشئون الإنسانية للأمم المتحدة الخاص بالعراق، المنشور في نهاية 2015، إن " الاحتياجات الإنسانية في هذا البلد كبيرة جدا، وهي في تزايد مستمر، 8.5 مليون مواطن بحاجة للوصول المباشر إلى خدمات صحية أساسية، كما أن 6.6 مليون مواطن بحاجة ماسة للوصول إلى المياه ومنشآت صحية ومساعدة في مجال النظافة. إضافة إلى أن أنظمة التوزيع المائي والصرف الصحي للمياه المستعملة باتت مدمرة، وهو ما يهدد بمخاطر أزمات عظيمة في الصحة العامة".
- في ليبيا: "الحرب الإنسانية" تتسبب في عطش الشعب
في عام 2011، وبعد 20 عام من إطلاق عملية "عاصفة الصحراء"، تدخل الناتو مجددا، هذه المرة في ليبيا تحت مسمى "مسؤلية الحماية"، لكن بعد مرور 4 أعوام، كما يذكر الباحث، نافذ أحمد في تقرير على موقع "ذا ايكولوجيست"، كان "العديد من المعلقين يتحدثون عن أزمة مائية تتفاقم في البلاد، إضافة إلى أن الاحتياجات تجاوزت الإنتاج. البعض يشدد على أن السياق البيئي الناجم عن التغيرات المناخية تسبب في ندرة الماء هناك، لكنهم يتجاهلون مشروع النهر الصناعي العظيم، ذلك النظام الري الوطني المعقد الذي أقيم بتأن وتطور على مدى عقود لحل الأزمة، الذي تعرض للاستهداف المقصود وتدهور بفعل الناتو. ففي سبتمبر 2011، نشرت اليونسيف تقريرا جاء فيه أن التدمير الجزئي للنهر الصناعي العظيم تسبب في حرمان 4 ملايين ليبي من المياه. ولا يزال النهر في حالة صعبة وتستمر أزمة المياه في ليبيا في التفاقم.
ووفقا لتقرير لوكالة "بلومبرج" في مايو 2015، فإن مشكلات الوصول للمياه في ليبيا ترجع إلى الانقطاع المستمر في الكهرباء الناجم عن تدهور قطاع الطاقة الليبي والمواجهات المستمرة بين المليشيات المتقاتلة.
وقال تقرير "ميديا بارت" إن حملة الناتو فاقمت هذه الفوضى الأمنية والتدمير الجزئي للبنية التحتية الليبية، كما شكلت عنصرا أساسيا في تفاقم أزمة المياه التي تهدد مستقبل البلاد.
- في اليمن.. كارثة إنسانية فاقمها حلف الناتو
يبين التقرير أنه قبل اندلاع الصراع الحالي بين التحالف الذي تقوده السعودية والمتمردين الحوثيين منذ مارس 2015، كان اليمن بالفعل ضمن الدول التي تعاني من نقص المياه بشكل خطير. ويحذر تقرير على موقع البنك الدولي، من أن المياه الجوفية في اليمن يمكن أن تنفد بداية من العام الجاري.
وفي هذا السياق، فقد فاقم الصراع بين التحالف العربي والحوثيين هذه الأزمة الإنسانية، بدعم حاسم وسري من 3 دول غربية على الأقل.
وفي مايو 2015، نشرت مجلة "ماريان" الفرنسية، تقريرا شدد على أن البنتاجون وإدارة الاستخبارات العسكرية الفرنسية والإدارة العامة للأمن الخارجي الفرنسية، يساعدون الجيش السعودي في التخطيط لعمليات قصفه، واختيار الأهداف، لاسيما باستخدام معلومات محددة من خلال الأقمار الصناعية.
وفي مايو 2016، أكد جورج مالبرونو المراسل الكبير لصحيفة لوفيجارو، التورط الخفي للجيش الفرنسي في هذه الحرب، إذ أوضح له مسئول عسكري كبير أن فرنسا تتعاون حربيا بشكل سري بتقديم "ملفات للأهداف" أو تنفيذ "مهام استطلاع، ليس فقط باستخدام أقمار صناعية لكن أيضا بطائرات."
وقال التقرير عن الدور الذي تقوم به أمريكا وبريطانيا في هذه الحرب، إنه لا يقتصر على بيع الأسلحة، ولكن ضباطا من الدولتين يساعدون حلفاءهم الإقليميين في التخطيط لعملياتهم. وأضاف أن "التحالف العربي" هو مصطلح يخفي عن عمد الدور الكبير للحكومات الأمريكية والفرنسية والبريطانية في هذا الهجوم الذي يخلف عواقب إنسانية وخيمة، لاسيما في مسألة الوصول للمياه الصالحة للشرب.
ووفقا لتقرير لمنظمة العفو الدولية في فبراير الماضي، فإن ضربات في صنعاء حولت محطة تنقية مياه إلى حطام. وفي يناير 2016، أوضحت يونيسيف أن الأطفال يمثلون على الأقل نصف 2.3 مليون مواطن تم تهجيرهم من منازلهم، وهناك على الأقل نصف 19 مليون مواطن يكافحون يوميا للحصول على المياه الصالحة للشرب، كما أن الخدمات الصحية العامة والمياه والصرف الصحي دمرت وغير قادرة على تلبية الاحتياجات المتزايدة للشعب البائس.
ويلفت التقرير إلى أن الملايين من المدنيين اليمنيين يتحملون عواقب القصف الشامل للبنية التحتية من قبل التحالف العربي، موضحا أن هذه العمليات فاقمت أزمة النقص الحاد للمياه، وهو ما حفز انتشار وظهور الاوبئة والأمراض الناجمة عن نقص المياه والكوليرا.
ومنذ عام 1991، والدول الغربية تؤكد أنها تقود "حروب نظيفة" في العراق ويوغسلافيا وأفغانستان وليبيا، إلا أنه خلال هذه الحروب، تدهورت بشكل واسع ومقصود البنية التحتية لتزويد شعوب هذه البلاد بالمياه، الأمر الذي عمق وفاقم الأزمات الأنسانية التي أثرت على الملايين من المدنيين، وبالتالي أصبحت نقص مياه الشرب واحدة من الأحمال التي لا تحصى على كاهل الشعوب "المحررة" من خلال تلك الهجمات العسكرية.