أحدث الأخبار
سافر إلى بغداد في سن السادسة عشر.. وبدأ حياته فيها عاملا في مقهى بثلاثة دنانير عراقية.. بعد ثلاث سنوات امتلك المقهى وتزوج كردية.. "استشهد" صديقه "مشتاق" النقيب في الجيش العراقي فسمى ابنه البكر على اسمه.. ومع الغزو الأمريكي للعراق عاد إلى مصر بعد غياب دام 22 سنة.. قبل أن يعاوده الحنين في 2013 إلى العراق ليعود مجددا ولكن هذه المرة إلى السليمانية ليؤسس تجارته.. أبو مشتاق أحد أشهر تجار سوق داره سوتاوه كه
المشهد الأول
الزمان: صيف عام 1981
المكان: قرية العتوة القبلية، مركز قطور، محافظة الغربية
مرتديا جلابيته النصف كُم، حاملا حقيبة يد صغيرة وضع فيها كل ما لديه من ملابس، وفي يده الأخرى جواز سفره ومبلغ مئة وخمسين جنيها، انحنى صُبحي ذو السادسة عشر عاما، مُقبلا رأسه أمه مُودعا لها.
المشهد الثاني
الزمان: صيف عام 2016
المكان: سوق داره سوتاوه كه، مدينة السليمانية، إقليم كردستان العراق
مرتديا الشروال (السروال التقليدي للأكراد)، وقميصا رياضيا بنصفِ كُم، جالسا على كرسي خشبي وضعه عند مدخل متجر كبير لبيع المستلزمات المنزلية، استقبلني صبحي المكني أبو مشتاق، بترحابٍ شديد.
"صبحي عبد المجيد أمين محمد جبر، الابن الثاني لأسرة مصرية متواضعة مكونة من أب وأم وأربعة أبناء" هكذا عرَّف نفسه، التاجر المصري المقيم في العراق منذ ثمانينيات القرن الماضي.
خلال زيارتي لمدينة السليمانية أو كما يسميها أكراد العراق "سليماني"، أخذتني الصحفية العراقية نجلاء قادر، في جولة داخل سوق داره سوتاوه كه (وتعني الشجرة المحروقة)، وهناك أخبرني كلُ من عَلِم بمصريتي أن ثمة تاجر مصري معروف في السوق يدعى أبو مشتاق.
مصر قبل 1981
يعود ابن الغربية بالذاكرة إلى الوراء، ليصف مصر حين تركها منذ خمسة وثلاثين عاما "كانت ظروف البلد صعبة جدا، بعد أن عانت من ويلات حروب دامت أكثر من عشر سنوات، وكان السفر للعراق حلما يراود كل مصري".
لم يكمل صبحي دراسته، وقرر السفر في سن صغيرة، ليلحق بركب المصريين الباحثين عن فرصة عمل في العراق، ورُغم أن والده كان تاجر مواشٍ، إلا أن الوضع المادي كما يصفه بلهجته المصرية التي صبغتها العراقية "اللي جاي على قد اللي رايح".
من ميناء نويبع وعلى متن عبارة بحرية، وصل صبحي الأردن، ومنها إلى منطقة العلاوي في بغداد. يقول مبتسما: وصلت العراق مرتديا دشداشة (جلابية).
22 عاما في الغربة
"نروح فين ونيجي منين، كنا عيال وفي غربة"، يصف صبحي المشهد حين وطأت قدماه ومصريون معه أرض بغداد لأول مرة.
في نُزُل قضى الصبي ليلته الأولى برفقة هؤلاء الذين جمعته بهم الظروف، وفي الصباح ذهب إلى ساحة خمسة وخمسين، وسط بغداد، وبعشرة دنانير حصل على تصريح الإقامة في بلاد الرافدين.
وبعد بحث دؤوب وسؤال كل مَنْ قابلهم في طريقه عن فرصة عمل، وصل صبحي إلى مقهى سلمان، في شارع كفاح بمنطقة الصدرية. وبثلاثة دنانير عراقية، أجِر يومي، بدأ الصبي المصري عمله في المقهى، وكان الدينار يعادل وقتها ستة جنيهات حسب قوله.
عند الثانية فجر كل يوم، يبدأ صبحي عمله، بغسل الصحون وتقديم الطلبات إلى الزبائن، وفي المساء يفترش أرضية المقهى، ينام منتظرا صباحه التالي.
وعلى المنوال نفسه، قضى الشاب المصري ثلاثة أعوام داخل المقهى يجمع كل ليلة ثلاثة دنانير يوفرها كاملة في ظل كرمُ الحاج سلمان الذي يوفر الطعام والملبس بالمجان.
كانت تلك المدة كافية لتمكين صبي المقهى، من تملك مكان عمله، يقول:" مَرِض الحاج سلمان، وكانت زوجته متقدمة في السن، وأولاده مشغولون بأعمالهم، فعرض علي شراء المقهى".
وبألف دينار ابتاع صبحي المقهى من معلمه، وسجله باسم صديق له من محافظة النجف، يدعى الحاج عيد؛ إذ لم يكن مسموحا للمصريين التملك في العراق، يقول مبتسما: كان سعر كوب الشاي عشرة فِلوس (جمع فِلس وهو عملة نقدية)، وحين تملكت المقهى زدته إلى 15 فِلسا".
خلال تسعة أعوام في العراق الذي كان جنة أحلام بحسب صبحي، ابتاع الشاب المصري فُرنا ثم مطعما، وسجل كل ممتلكاته باسم زوجته الكردية التي تعرَّف عليها في سن الخامسة والعشرين. "كان العراق جنة الأحلام، والشرطة تنتشر في كل مكان، البلد كان هادئا، وخير العالم كله فيه" يقول ابن قرية العتوة القبلية عن عراق ما قبل عام 2003.
الحب والصداقة
"تقابلنا في مدينة الطب، في المشفى، كانت ممرضة وكنتُ مريضا أعاني من ارتفاع حرارة الجسم" هكذا كان لقاء صبحي بزوجته الكردية للمرة الأولى.
كونه ثريا، مقارنة بغالبية المصريين العاملين في العراق حينها، لم يسهل مَهَمَّة زواجه من كردية؛ إذ دخل السجن لمدة 15 يوما، بعد أن نشبت مشاجرة بينه وبين شقيقها الرافض للزواج، "ضربته وجرحت رأسه، فاشتكى عليّ" يقول صبحي عن شقيق زوجته.
لكن الحبيبة الكردية حاربت لأجل حبيبها المصري، فتنازل شقيقها عن شكواه وتكلل الحب بالزواج: "ذهبنا إلى محكمة شارع اثنين وخمسين، بمنطقة الكرادة، وقطعنا مهر (أي عقد القران)".
الحياة التي أسعدت صبحي بزواجٍ عن حب، أبت أن تبقي على سعادته فخسر أعز أصدقائه ويدعى مشتاق، "كان نقيبا في الجيش العراقي، كان يعزُ علي أكثر من نفسي، دخلت بيته، وأكلت معه، وكان أكثر من أخ".
قُتل الصديق، بينما الزوجة حاملة في الابن البكر، يتذكر صبحي:" طلبتُ من رب العالمين أن يرزقني ولدا؛ حتى أسميه مشتاق، وبالفعل رُزقت بابني البكر، مشتاق".
كان مُشتاق الصديق يتردد على مقهى صبحي من حين لآخر، وذات مرة نشب خلاف بين المصري ومجموعة من السكارى، تصدى لهم مشتاق مدافعاً عن صبحي، وهكذا بدأت صداقتهما. بينما يحكي امتلأت عيناه بالدموع وشرد قائلاً: "من بعد مشتاق خلاص..أتذكر جيدا قصة حياتنا معا، أراها كما الفيلم، يمر أمام عيني".
2003 سقوط صدام
وكما كان عام 2003 فاصلا في تاريخ العراق، كان أيضا فاصلا في مسيرة أبو مشتاق، الذي يلخص بثلاث جُملٍ مقتضبة المشهد حين سقط نظام الرئيس العراقي الأسبق، صدام حسين، ودخلت القوات الأمريكية البلاد.
يقول: "السَبع مَنْ كان ينفذ بجلده وقتئذ".
"نزل الأمريكيون إلى الشوارع، وراحت الحكومة، وحُلَ الجيش، وصارت فوضى وبلطجة".
"حالي حال الناس، كنت أمام اختيارين لا ثالث لهما، إما الموت و إما النجاة، تركت كل ممتلكاتي، وأخذت أولادي ورحلتُ إلى مصر".
العودة للوطن
وكما وصل العراق شاعرا بأنه تائه، كان الشعور نفسه رفيقه حين عاد إلى مصر بعد انقطاع دام اثنين وعشرين عاما، يقول أبو مشتاق:" حين وصلتُ مصر، كنتُ تائها، لا أعرفُ الطريق إلى بيت أبي، سألتُ عجوزاً: أين منزل الحاج عبد المجيد.. البيت كما هو لكن الشوارع تغيرت".
في مصر بنى أبو مشتاق بيتا وسجله باسم زوجته الكردية، وظل فيه حتى عام 2013 حين قرر العودة إلى العراق لكن هذه المرة إلى مدينة السليمانية في إقليم كردستان.
ورغم أن العراق الذي أتاه عام 1981 يختلف كثيرا عن عراق 2013، عاد صبحي ليستقر فيه من جديد "رجعتُ لأجل زوجتي، فهي تشتاق لأهلها، ولم أرغب في أن أحملها ألم الغربة".
التاجر أبو مشتاق
بعد ثلاثين عاما من الكفاح وأكثر، يملك المصري أبو مشتاق الآن، ثلاثة محال للمستلزمات المنزلية، في واحد من أكبر أسواق مدينة السليمانية، ويحظى بشهرة وسمعة طيبة بين جيرانه من التجار، يوضح: "الناس هنا تأخذني حكما لأفصل بينهم، ولأني مصري فهم متأكدون أني لن أنحاز لطرف على حساب طرف آخر، فأنا في نهاية المطاف أجنبي".
عن الوطن
"الوطن عزيز، أعز من الضنا. لكن الوطن يريد كفاحا، يريد يدا عاملة".
أخبرني صبحي أنه منذ عاد إلى العراق في 2013، لم ينقطع عن مصر ويسافر كل عام لرؤية أهله، ورُغم أنه يعتبر العراق بلده الثاني إلا أنه لا يستطيع أن يمحو من ذاكرته كلمات لأم كلثوم سمعها حين ترك مصر أول مرة.
"وأنا طالع من مصر، كان شخص في الميناء يحمل جهاز كاسيت يستمع لأم كلثوم تغني: سافر في يوم ما وعدني على الوصال وعاهدني".
صبحي الذي أتى العراق صبيا، وتجاوز الآن عامه الخمسين، لا يزال يردد تلك الكلمات التي سمعها بصوت أم كلثوم، وكأنها صوت مصر يذكره دائما بالعهد... بالعودة.