أحدث الأخبار
"مصرية؟" سألني بينما يتفحص جواز سفري، ولم ينتظر الرد، ليتابع مبتسما "أنا أحب عادل إمام كثيرا".. كانت هذه الكلمات جواز مروري من نقطة سيطرة (تفتيش) تابعة للشرطة الكردية، على الطريق الممتد من مدينة السليمانية إلى أربيل عاصمة إقليم كردستان العراق.
موقفٌ أعاد للذاكرة شائعة التسعينيات الشهيرة التي تقول إن "الفنان عادل إمام مستعد لدفع ديون مصر مقابل وضع صورته على الجنيه"، كنت أتذكرها وأضحك حتى قبل أيام قليلة من زيارتي للعراق، حين تغير كل شيء.
قبل إقلاع الطائرة
بمشاعر مختلطة تلقيت نبأ دعوتي لمهمة إعلامية في مدينة السليمانية أو سليماني كما يسميها الأكراد، وهي العاصمة الثقافية للإقليم الواقع شمالي العراق، ويتمتع بحكم ذاتي.
معلوماتي كصحفية تشير إلى أن الوضع الأمني في الإقليم المكون من أربع محافظات مستقر، مقارنة بباقي أجزاء العراق، لكن صوتا داخلي يعلو وتخفت نبرته، يقول "في نهاية المطاف هي جزء من العراق، بكل ما يحدث في العراق".
في مطار القاهرة جلست وحيدة، انتظر وينتظر قرابة خمسين شخصا غيري الطائرة المقرر إقلاعها عند الحادية عشرة والنصف مساء، أتلقى اتصالات هاتفية مُوتِرة ومتتالية، الأهل والأصدقاء اتفقوا جميعا دون ترتيبٍ مسبق على نصيحة واحدة "انتبهي.. خُذِي حذرك".
على متن الطائرة حاولت السيطرة على تقلصات المعدة، وأخبرت نفسي بضرورة فتح نقاش مع مَنْ سيجلس بجواري لأتخلص من تلك الأفكار السيئة، لكن لسوء الحظ لم يجلس أحد.
أربيل الساعة 3:30 فجرا
عند الثالثة والنصف فجرا، بتوقيت أربيل (الثانية والنصف بتوقيت القاهرة) هبطت الطائرة. وكان مطار أربيل هادئا أكثر مما يلزم.
وقفت في صف مع ثلاثة غيري للحصول على تأشيرة دخول الإقليم، تفحص الشرطي جواز سفري وفي أقل من 10 دقائق حصلتُ على تأشيرة كردستان العراق.
"لا تخافي، إقليم كردستان يتبع العراق فقط بالاسم" بهذه الجملة استقبلني مطمئنا صديقي الكردي الذي يجيد العربية محمد زنكنه.
ليالي القاهرة في أربيل
في شاحنة ربع نقل أو كما يسميها الإنجليز "بك أب" تحركتُ برفقة صديقي وسائق السيارة الذي لا يتحدث سوى الكردية، باتجاه مدينة السليمانية على الحدود العراقية الإيرانية.
على بعد خطوات من المطار والظلام يحيط بنا إلا أضواء خافتة تضيء الطريق الرئيسي لسيارتنا التي تسير وحيدة، لفت انتباهي مطعمُ وضعَ صورَ عادل إمام وفنانين مصريين آخرين على واجهته، وأخذ "ليالي القاهرة" اسما له.
طريق وعرة وجمال أخاذ
كمصرية كنت أعتقد أننا نملك أسوأ طرقٍ، حتى سرتُ على الطريق من أربيل مرورا بكركوك التي تبعد عن العاصمة 92 كم، وصولا إلى السليمانية بعد 109 كم، حيث الكثير من النقرات والمطبات.
على طول الطريق تتواجد نقاطٌ تمركزٍ لرجال الأمن، عند كل واحدة يستقبلك صف من الصور كبيرة الحجم لضحايا الشرطة الكردية، وكُتب تحت الواحدة "الشهيد/ (الاسم)".
بدأ شروق الشمس ونحن على أعتاب السليمانية، وأخذت أشعتها تكشف الحجاب عن المدينة، وكأنها تكشف عن أميرة، ترفلُ في فستان تفنن اللون الأخضر بكل درجاته في إبداعه، تحيطني المرتفعات والسهول الخضراء وأشجار الصنوبر، تستقبلني رائحة الورود، وتبهرني نظافة المدينة وسلامها.
اليوم الأول
في السليمانية حيث تعيش أغلبية كردية مع أقلية عربية وأعراق أخرى، بالإضافة إلى جنسيات مثل السوريين، هناك "أتيكيت" في التعامل اليومي بين الجميع، "كاكا" وتعني أخي هي كلمة متداولة بشكل واسع ودائم، ويستبدلها أهل المدينة بكلمة "كاك فلان" أي أخ فلان.
أما كلمة "ست" أو خانوم وهي لقب كل السيدات في العراق.. "أهلا ست مروة"، هكذا يبدأ التعارف بيني وبين أي عراقي وبخاصة العرب، حتى أبدأ الحديث فتكشف لهجتي عن مصريتي، فتتغير النظرة إليّ وأتحول بقدرة قادر إلى عادل إمام أو ربما نائبة عنه، وكأن وجه "الزعيم" طُبع على وجهي لا الجنيه المصري.
يحفظ العراقيون نِكات وإيفيهات إمام عن ظهر قلب، وكوني مصرية فيجب أن أكون ذات حس فكاهي، وأحفظ وأتقن إلقاء تلك النكات، هذا على ما يبدو واجب وطني.
معضلتي الكبرى كانت في اللغة، فلا أستطيع المضي وحدي فغالبية أهل الإقليم لا يجيدون العربية ولا حتى الإنجليزية، بل الكردية وحسب.
الوجوه الثلاثة
ست داليا، هي أم لأربعة أطفال، نازحة من محافظة نينوي شمال العراق، تقول "داعش أخذ بيوتنا، وسيارتنا، جئنا إلى سليمانية، واستقبلونا العالم.. ننتظر رحمة الله".
التقيتُ داليا في سوق داره سوتاوه كه (وتعني الشجرة المحروقة)، هي مَنْ بادرت بالحديث معي بعد أن عَرفتْ من رفيقتي العراقية، أني مصرية أو بالأحرى من بلد عادل إمام.
داليا خريجة كلية اللغات تخصص لغة فرنسية، لكنها تجد صعوبة في إيجاد عمل في الإقليم، تقول "هناك أزمة عمل في الإقليم، وبالنسبة لنا كنازحين إيجاد وظيفة أمر صعب".
الست وهي زوجة رجل عسكري في الجيش العراقي، قارئة نهمة لروايات إحسان عبدالقدوس، وطه حسين ونجيب محفوظ، وتتمنى أن تزور مصر وترى مقام "سيدنا الحسين" وتجلس على مقهى الفيشاوي.
عبد القادر سمير (18 سنة) يُعيل أسرة مكونة من أب وأم وأخوين أحدهما في السادسة والثاني في الثامنة من عمره. نزحت أسرته من محافظة الأنبار غربي البلاد إلى السليمانية في 2013، هربا من تنظيم داعش يقول "هنا أمان، بس إذا نرجع محافظتنا أحسن".
يعمل عبد القادر في متجر يملكه ويديره تاجر مصري يدعى أبومشتاق لبيع المستلزمات المنزلية، ويعول أسرته، فالوالدان لا يقدران على العمل بحسب ما ذكر.
"المدرسة اتفجرت بالمفخخات" بتلك الكلمات المقتضبة أجابني حين سألته عن دراسته.. يعيش عبد القادر على أمل أن تتحرر محافظته ويعود وأخوته للمدرسة، فالدراسة في السليمانية باللغة الكردية وهذا عائق بالنسبة لهم.
"العراق منفرط فرط، ودول عدة تتحكم فيه، وما بقي العراق الذي يمكن نفرح فيه، فرح ماكو (لا يوجد)، ونس ماكو".. يقول إسماعيل محمد إبراهيم، ضابط بالجيش الكردي.
المفاجآت الثلاث
هل صادفت ورقة مالية فئة الألف؟
تلك كانت أولى مفاجآت الإقليم.. يتداول العراقيون أوراقا مالية بالآلاف في تعاملاتهم اليومية، فأصغر فئة للعملة هي 250 دينارا عراقيا (الجنيه المصري يعادل 125 دينارا عراقيا)، تليها ورقة الألف وورقتا الخمسة والعشرة آلاف وورقة 25 ألف دينارعراقي، ولا عجب أن تسمع أن راتب موظف في العراق مليون دينار مثلا.
المفاجأة الثانية تخص بيئة العمل في الإقليم، إذ تضم أغلب أماكن العمل مطعما، وتُعين طباخين يقدمون وجبة غداء، في أوقات محددة للعاملين، وبالمجان.
تتغير تلك الوجبة يوميا، وعند موعد الغداء يجتمع الموظفون لتناول وجباتهم، هذا بالإضافة إلى تلك الثلاجة التي تعبأ بشكل دائم بزجاجات المياه المعدنية دون أي مقابل يذكر.
قد يبدو الأمر طبيعيا وأساسا من أساسيات الإنسانية، لكنه ليس كذلك بالمقارنة مع أماكن عمل في مصر يهدر الموظفون فيها وقتا طويلا في طلب وانتظار الوجبات السريعة، ناهيك عن مكاتبهم التي تفوح منها رائحة الطعام.
من المفاجآت التي كنت على موعد معها في الإقليم الكردي أيضا، تلك القوانين البسيطة المؤثرة ويلتزم بها الجميع، التي أخبرتني بها الصحفية العراقية نجلاء قادر.
تقول إن غسل السيارات في المنازل ممنوع ويُغرم فاعله بدفع 50 ألف دينار عراقي (400 جنيه مصري)، لكن المسؤولين في المقابل وحَّدوا تكلفة غسل السيارة في الورش المخصصة لذلك بمبلغ 10 آلاف دينار(80 جنيها)، والغرض من القانون بحسب قادر هو ترشيد استهلاك المياه.
وعلى ذكر السيارات، فالنساء ممنوع عليهن قيادة السيارة بالحذاء ذي الكعب العالي لأنه سبب في حوادث السيارات، وإلا تُغرم السيدة بدفع 30 ألف دينار أو ما يعادل 240 جنيها.
أما استخدام بوق السيارة أو "الكلاكس" كما نسميه نحن، فاستخدامه -دون ضرورة مُلحة- يقابله غرامة بقيمة 50 ألف دينار عراقي.
سلاما سليمانية
على مدار أسبوع كامل، استمتعت بمدينة مسالمة، أهلها محبون للحياة، وأتذكر ذلك الشعور بالخوف الذي تلاشى بعد سويعات من الوصول.
أتذكر أيضا أنني كنت أتلذذ بالمشي في شوارعها وحتى ساعة متأخرة من الليل برفقة صحفيين وصحفيات.
ولا أنسى حين أطلعني صحفي عراقي على صورة تجمعه بالكوميديان عادل إمام، لا زال يحتفظ بها على هاتفه الشخصي، ويفتخر بأنه الصحفي العراقي الوحيد الذي تمكن من محاورة الفنان خلال زيارته الأخيرة لأربيل نهاية 2012.
ومنذ تلك الرحلة -التي كانت في شهر مايو الماضي- لم أعد أسخر من شائعة التسعينيات تلك، فإن لم يضع عادل إمام صورته على الجنيه فقد وضعها بشكل أو بآخر على هوياتِنا الشخصية كمصريين.