أحدث الأخبار
بعد مرور نحو خمس سنوات على رفض المجلس العسكري الحاكم، آنذاك، للاقتراض من المؤسسة الدولية المعروفة بشروطها الاقتصادية ذات الآثار الاجتماعية السلبية، تعلن الحكومة المصرية عن اقترابها من توقيع اتفاق قرض مع صندوق النقد الدولي، بنحو ثلاثة أمثال القيمة التي كانت تتفاوض عليها بعد الثورة.
أصوات مصرية حاورت، رباب المهدي، أستاذة العلوم السياسية بالجامعة الأمريكية والمتخصصة في الاقتصاد السياسي المقارن، حول رؤيتها لهذا التحول في موقف النظام الحاكم، وما يعكسه من تغير في سياسات البلاد.
السلطة لا تخشى تكرار 1977
لم تحسم الحكومة حتى الآن الشروط التي ستتفق على أساسها مع صندوق النقد الدولي للحصول على قرض بقيمة 12 مليار دولار، لكن حزمة الإصلاحات الاقتصادية التي ذكرها بيان مجلس الوزراء وهو يعلن للرأي العام عن اقتراب البلاد من توقيع الاتفاق، شملت تقريبا نفس السياسات المطروحة في الجلسات الأولى مع الصندوق عام 2011، مثل التوسع في ضرائب المبيعات وإعادة هيكلة الدعم، وأضيف إليها ما طرحته الحكومة منذ مارس 2015 من تقليص للإنفاق على الأجور الحكومية تحت مظلة قانون الخدمة المدنية الجديد.
الرئيس يتصور أنه عندما يقول للموظفين إن مصر محتاجة للدعم فعلى الناس أن تقبل بذلك
تلك الإصلاحات ذهبت بعض التحليلات إلى أن المؤسسة العسكرية، برؤيتها المحافظة، تتجنب تطبيقها خشية الضغوط الاجتماعية المصاحبة لها عادة، وفي خلفية تلك التحليلات ذكرى الانفجار الاجتماعي الذي حدث عام 1977.
ولا ترى أستاذة العلوم السياسية أن وجود رئيس للجمهورية قادم من المؤسسة العسكرية يعني بالضرورة أن يرفض تلك السياسات الاقتصادية، حيث تقول "هناك اعتقاد غير صحيح بأن المؤسسة العسكرية ككل ضد هذا التوجه (الاقتصاد الحر).. لكن هناك اختلافات في الرؤى داخل هذه المؤسسة".
وتقول رباب إنه في المؤسسة العسكرية يوجد "من لا يتبنون الرؤية (المحافظة) التي كان يتبناها رجال مثل رئيس الوزراء الأسبق كمال الجنزوري أو وزير الدفاع الأسبق المشير حسين طنطاوي، وعلى رأسهم الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي ... خاصة وأن هذا الجيل (جيل السيسي) عايش أحداث 1977، لكن ليس من موقع السلطة".
نفاذ رؤية الصندوق للسلطة في مصر، كما تقول أستاذة العلوم السياسية، يأتي مدفوعا أيضا بضغوط الأزمة المالية الحالية "التي لم نر مثلها منذ 1989"، موضحة أن ما أنقذ الأوضاع وقتها هو إسقاط جزء كبير من الديون المصرية بعد حرب الخليج.
وكان التقارب الأخير بين مصر وسياسات السوق الحر وقت الصعود السياسي لجمال مبارك، نجل الرئيس الأسبق للسلطة، حيث تبنى أمين لجنة السياسات في الحزب الحاكم في ذلك الوقت حزمة من الإصلاحات المالية التي تخفف الأعباء على المستثمرين، وتتبنى خصخصة الأصول العامة للدولة، وتخفيض دعم الطاقة.
نحن الآن بصدد نظام شرس لكنه ليس قويا،
وترى رباب أن النموذج الاقتصادي الحالي تحت حكم السيسي وبالرغم من تبنيه العديد من أفكار التحرر الاقتصادي يبدو مختلفا عن نموذج مبارك الإبن، الذي كان يتم إعداده لتولي الحكم.
جمال مبارك خبرته مختلفة عن السيسي، بحكم عمله في بنوك في الخارج وإيمانه بالاقتصاد الحر إلى ما لا نهاية، كما تقول رباب المهدي، "أما هؤلاء (النظام الحالي) فهم لا يقدمون تصورا اقتصاديا كليا .. وما يبرهن على ذلك هو التخبط الذي نراه مثلا في استنزاف احتياطيات النقد الأجنبي للتسريع بحفر قناة السويس ..(النظام الحالي) يتعامل بشكل جزئي ويأخذ من كل بستان زهرة، وهذا أسوأ بكثير، فلأي نظام اقتصادي مزايا وعيوب أما التعامل بهذا الشكل الجزئي فقد يعرضك لكل العيوب".
ويوجه البعض انتقادات للنظام الحالي في مصر بوصفه عاجزا حتى عن تطبيق بعض جوانب العدالة الاجتماعية التي يسمح بها الاقتصاد الحر، فسياسة الحد الأقصى للأجور التي أعلن عنها الرئيس السيسي فور توليه منصبه تم استثناء العديد من مسئولي الدولة من تطبيقها، كما إن ضريبة الأرباح الرأسمالية، التي فرضتها الحكومة على المكاسب المتحققة من الاوراق المالية المتداولة في البورصة، اضطرت لتجميدها تحت وطأة ضغوط رجال الأعمال.
وتعتبر رباب أن مثل هذه التراجعات تعكس ضعفا في النظام الحالي، بالرغم من أنه يُنظر إليه كنظام قوي استطاع أن يستعيد الاستقرار السياسي نسبيا.
"في العلوم السياسية نُفرق بين الدولة القوية والدولة الشرسة، نحن الآن بصدد نظام شرس لكنه ليس قويا، هو نظام قمعي لكن القمع ليس دلالة على القوة، بل يعني أنه ليس لديه سبيل آخر لإدارة المجتمع غير استخدام القمع والعنف والتهديد".
ومع ذلك فإن الحكومة مقبلة على إصلاحات اقتصادية جريئة بمنتهى الثقة، وهو ما تفسره أستاذة العلوم السياسية بأن جرأة النظام ترتبط بتصورات عند الرئيس "منذ لحظة التفويض أن هذه لحظة دائمة، وأن الدعم الشعبي الذي يحظى به كافيا".
وترى رباب أن "هذا التصور قد يكون حقيقيا ولكن تلك اللحظة ليست مستدامة.. هناك رؤساء مثل سوهارتو في أندونيسيا استطاعوا أن يطبقوا سياسات تحررية، ولكنهم كانوا يستندون على شرعية الإنجاز، لكن الإنجاز الوحيد للسيسي هو القضاء على الإخوان، وهذا ليس كافيا".
غياب التحالف الصلب للحكم
ويُظهر تتبع السياسات الاقتصادية منذ 2014 أن النظام في مصر كان جريئا في تطبيق إجراءات مثل تحرير دعم الوقود، بينما تردد كثيرا قبل أن يبدأ في وضع تشريع لتوسيع تطبيق ضريبة المبيعات، تحت اسم ضريبة القيمة المضافة، نتيجة "عدم وجود تحالف صلب للحكم ( يدعم تطبيق السياسات الاقتصادية)" كما تقول رباب، مضيفة "حتى جمال مبارك كان لديه تحالف حاكم متمثل في طبقة من السياسيين ورجال الأعمال وغيرهم".
وبالرغم من أن العديد من رجال الأعمال البارزين كانت لهم أدوار تحت قيادة السيسي، مثل رجال الأعمال الذين ساهموا وشاركوا في إدارة صندوق تحيا مصر أو في قيادة قوائم انتخابية، لكن رباب لا ترى أن ذلك كان مؤشرا على وجود ما تسميه بالتحالف الصلب للحكم.
"هناك فارق بين تحالف في لحظة بعينها وبين شراكة في تحالف حاكم، انظر مثلا كيف عبر رجل أعمال مثل محمد السويدي عن استيائه من القبض على رجل الأعمال صلاح دياب، بالرغم من أن الأول عضو في البرلمان.في حالة وجود تحالف حاكم مثل هذه الخلافات تسوى في الغرف المغلقة، لكن أشكال التعاون القائمة هي أشبه بالتشارك في صفقة للحظة معينة، وليس تشارك في تأسيس شركة ممتدة العمر".
لايوجد تحالف صلب للحكم يدعم السياسات الاقتصادية للنظام
طبقة الموظفين والسلطة!
وبينما كان الاقتصادي الراحل سامر سليمان يرى أن طبقة موظفي الحكومة كانت من الداعمين الرئيسيين لنظام مبارك، لهذا كان يتوسع في الإنفاق على أجورهم بشكل قوي، فإن حكومة السيسي تهبط بمعدلات نمو الإنفاق على الأجور الحكومية بشكل قوي إلى نحو 5% هذا العام.
وتعتبر رباب أن هذا التحول في سياسة استرضاء الموظفين يعكس الرؤية السياسية للرئيس الذي يرى "الشعب" ككتلة مصمتة ولا يهتم بتحليلها طبقيا ولكن يعول على دعمها له على المستوى الشخصي.
"الرئيس يعول على الدعم له كشخص ولا يملك التحليل الطبقي الذي يقدمه سامر سليمان .. فهو يخاطب الشعب كأفراد ويهتم بالظهور المسرحي الذي يجيده جدا.. كما أنه يتصور أنه عندما يقول للموظفين إن مصر محتاجة للدعم فعلى الناس أن تقبل بذلك لأنهم مؤمنين به بشكل شخصي، حتى وان أثرت تلك السياسات على ظروفهم المعيشية.. وإيه يعني.. عشان مصر! هذه الرؤية تعكس التصورات الفجة عن أن الوطنية تعني أن تضحي إلى ما لا نهاية، مثل شعارات الوطنية الزائفة كشعار مصر أولا وقبل كل شيء.. ما المقصود بمصر هنا وهل تكون قبل المصريين أنفسهم ؟".
مستقبل مقلق
وبينما تبدو الحياة في محيط منزلها بحي سكني غارق في السكينة والهدوء، فإن قراءة رباب للمستقبل تحمل في طياتها نبوءات بتحولات كبيرة قادمة في الطريق.
إذ تؤكد على أن الوضع القائم ليس مستداما، كما أن ظروفا اقتصادية ضاغطة ستقع على عاتق المصريين في الأجل القريب، "نحن في بداية حالة من الركود التضخمي.. وسنرى تدهورا رهيبا في الأحوال المعيشية بشكل يشمل كل المجتمع ولن تنجو منه إلا فئة تقل عن الـ 1%".
وتحصر الأستاذة اليسارية الشابة مستقبل النظام المصري بين احتمالين "هناك سيناريو انهيار النظام للداخل بمعنى أن النظام يحمل أسباب فناءه داخليا و التي ستؤدي إلي إنهياره حتي لو لم يحدث إنفجار، أو سيناريو انفجار النظام للخارج، والذي يرتبط بمحددات مثل دور المعارضة وأشكال التنظيم وصياغة البدائل. ولو هذه العوامل غير موجودة فسيكون الانهيار للداخل هو الأقرب للحدوث".