أحدث الأخبار
بالرغم من الانزعاج التركي من عدم ضم أنقرة إلى الاتحاد الأوروبي، بعد مرور 53 عاما على تقديم طلب الانضمام، وبالرغم أيضا من الانزعاج الأوروبي من التعرض لابتزاز دبلوماسي تحت ضغط موجة هجرة طويلة، إلا أن العلاقات بين أوروبا وتركيا كانت حتى منتصف يوليو الماضي تبدو ثابتة وودية تقريبا نظرا للمصالح الاقتصادية والاستراتيجية المتبادلة.
وفي مقال بعنوان "إلى أين تتجه تركيا مع إردوغان؟" في صحيفة "لوفيجارو" الفرنسية، يتناول الدبلوماسي والكاتب التونسي مزري حداد، سياسة الرئيس التركي رجب طيب إردوغان الجديدة، ومستقبل بلاده في ظل تغيير حلفائها، تعقيبا على الندوة الأولى التي خصصها المركز الدولي للجيوسياسية والاستشراف التحليلي في 15 أكتوبر الجاري حول تركيا.
وأوضح حداد أنه في عام 2011، كانت العلاقات بين تركيا والاتحاد الأوروبي ممتازة، بفضل "الربيع العربي"، فإردوغان كان في ذروة مجده، كما أن توجهه "الإسلامي المعتدل"، كان في نظر بعض المتابعين للوضع بمثابة "النموذج المثالي للحل في الدول التي تشهد اضطرابات"، مثل تونس وليبيا ومصر وسوريا واليمن. واعتبر الكاتب أن العثمانية الجديدة كانت في طريقها للأمام ولا يبدو أن شيئا قادرا على إيقافها.
لكن بعد ستة أعوام من هذه النشوة، تعيش تركيا في الوقت الحالي حالة من البرود في العلاقات مع حلفائها التقليديين سواء الولايات المتحدة وأوروبا، كما أنها في أزمة مفتوحة مع عدد من الدول العربية، لا سيما سوريا والعراق ومصر. وغضب إردوغان للإطاحة بالإخوان المسلمين في مصر عام 2013.
وأشار حداد إلى أن العلاقات التركية الأوروبية من جهة، والتركية العربية من جهة أخرىن أخذت منعطفا حاسما مع الأزمة الداخلية التي هزت النظام التركي في 15 يوليو الماضي، المتمثلة في محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة، التي اعتبرها النظام هناك "مؤامرة من الخارج"، كما توقفت العلاقات بين تركيا وحليفها الرئيسي أمريكا، لا سيما وأن إردوغان يلقي باللوم عليها في إيواء عدوه اللدود، فتح الله جولن، المتهم بترتيب هذا الانقلاب العسكري الذي ساهم فيما بعد في ترتيب أجندة الرئيس التركي.
ويلفت حداد إلى أنه من الواضح أن التوتر في العلاقات سيظل حتى الانتخابات الرئاسية الأمريكية المنتظرة في نوفمبر المقبل، إلا أن التقارب مع روسيا، الذي نُظَر إليه في البداية على أنه تكتيكي وردعي بحت ضد الأمريكان، تحول إلى استراتيجي وحال دون حدوث تطبيع للعلاقات مع الولايات المتحدة والعودة لنفس مستوى الشراكة الثنائية التي سبقت الأزمة.
نفس التوتر ينعكس أيضا على علاقة تركيا بالاتحاد الأوروبي الذي يلقي إردوغان اللوم على قادته لاتخاذ موقف سلبي ولا مبالاة، حينما اهتزت سلطته في الفترة بين 15 و22 يوليو من العام الحالي. يلفت الكاتب إلى أن ردة الفعل السطحية لإردوغان أظهرت شعوره العميق تجاه الأوروبيين الذين لم يلتزموا بوعودهم لضم الباب العالي إلى الاتحاد الأوروبي.
وأخيرا، الجمود نفسه انعكس أيضا على علاقة تركيا ببعض البلدان العربية، لا سيما وعلى رأسها مصر، التي لم تعد السلطة فيها تتسامح مع تدخلات إردوغان في شؤونها الداخلية، مثلما يفعل في القوقاز وقبرص، إذ تعتزم مصر، من خلال إنعاش وضعها الاقتصادي والاجتماعي والأمني، استعادة قيادتها الطبيعية داخل الوطن العربي.
يخلص الكاتب إلى أن ما تجمد في الواقع هو تركيا نفسها، أو بمعنى أدق نظامها السياسي الإسلامي، الذي يعاني، بعد 15 عاما من الحكم منفردا، من استنزاف للسلطة وتآكل للأيديولوجية، فإذا كانت الأزمة الداخلية التركية في يوليو الماضي، انعكاسا لنظام يتهاوي ومتنازع عليه، فإن ردود فعل إردوغان غير المتوائمة على هذه الأحداث تكشف الطبيعة الحقيقية لهذه "الاستبدادية الشرقية" لتركيا التي كانت أكثر البلدان ليبرالية وديمقراطية في العالم الإسلامي.
ويوضح الكاتب التونسي أن عمليات التطهير داخل الجيش والقضاء والأمن والتعليم، والاعتقالات الجبرية للمفكرين والصحفيين الذين ينتقدون النظام، وكذلك التعديات الخطيرة على حقوق الإنسان وحرية الصحافة، وإعلان إردوغان بنفسه -في 18 يوليو على قناة CNN- إعادة فرض عقوبة الإعدام، كل هذا يشكل مؤشرات على تحول استبدادي يقلق أوروبا ويثير حفيظة الولايات المتحدة.
وطرح حداد العديد من الأسئلة في مقاله لفهم مستقبل تركيا تحت حكم إردوغان: هل هذا الوضع في تركيا دائم أم مؤقت؟ هل عاد "الرجل المريض" ليصبح عامل قلق وعدم استقرار بالنسبة لأوروبا والعالم العربي؟ وما الذي يخاطر به الأوروبيون إذا ما رفضوا بشكل نهائي ترشح تركيا للاتحاد الأوروبي؟ هل ستعيد الدول الأوروبية، وخاصة ألمانيا، النظر في اتفاقها مع تركيا المتعلق باللاجئين؟ هل سيعلن ضعف تركيا على الساحة الدولية، انحسار الإخوان المسلمين في العالم العربي وأوروبا، بعد حقبة "الإسلامية" التي تم التأكيد أنها أيديولوجية تأثير إقليمي وعالمي؟
ويضيف أنه بالنظر للعلاقات المتوترة بين تركيا وداعش في سوريا والعراق وليبيا، فهل أصبح جليًا وجود توافق مصالح موضوعي؟ وهل سينعكس هذا التوافق على الحرب التي تخوضها أوروبا ضد الإرهاب؟ وهل نجحت روسيا، التي تقاتل بلا هوادة ولا تمييز داعش والقاعدة والجماعات المتمردة الأخرى التي تحمل اسم "معتدلة" في سوريا، في تغيير موقف النظام التركي تجاه الصراع السوري، وبالتالي تجاه الكفاح ضد الإرهاب الدولي؟
ويقول الكاتب إنه بقيام إردوغان بزيارة إلى موسكو، فإن الرئيس التركي يدرك بدون شك أن مستقبل تركيا من الآن فصاعدا يدور في شرقها وبالتحديد في وسط أسيا، ولكن مع استئناف العلاقات الاقتصادية بين البلدين التي تم تعليقها عقب تدمير طائرة تركية، لمقاتلة روسية في نوفمبر 2015، وتتويج هذا الاستئناف بتوقيع اتفاق استراتيجي لبناء خط غاز "ترك ستريم" بتكلفة 10 مليار دولار فهل نشهد على المدى المتوسط أو الطويل، بزوغ محور أنقرة- طهران- موسكو، الذي سيشكل كفة موازية لحلف شمال الأطلسي؟ فهل إردوغان، الذي حلم لبعض الوقت بأن يكون الخليفة العثماني الجديد، حليف موثوق فيه لروسيا في ظل تصاعد ما يشبه العداء الجذري حول "الشرق الأوسط الكبير" الذي يتخيله المحافظون الأمريكيون الجدد؟
يوضح حداد أن الإجابة على هذين السؤالين تعتمد بشكل أكبر على فلاديمير بوتين أكثر من إردوغان، بعد أن تمكن الرئيس الروسي من تغيير علاقة القوى في المنطقة مع سعيه لإعادة روسيا لدورها كقوة عظمى.